عندما عانقت خانيونس البحر والتحمت رفح بأهلهـا

في لحظة إنسانية فريدة، ومع خروج آخر جندي احتلال من مستوطنات غزة، أشرق نهار الثاني عشر من أيلول على قطاع غزة، لتندفع محافظات رفح وخانيونس بأطفالها ورجالها وشيوخها ونسائها نحو البحر الذي حرموا منه لخمس سنوات.
مشهد لن ينسى لآلاف من البشر يلتحمون بالبحر والرمال والحقول. سكان المواصي والقرية السويدية الذين كانوا سجناء خلف أسياج المستوطنات خرجوا لأول مرة من الحصار. احدهم قال لي، لم أغادر قريتي منذ خمس سنوات واليوم ولدت من جديد.
وفي نفس اللحظات اندفع الآلاف بعفوية كاملة يجتازون الحدود للقاء أحبتهم في النصف الثاني من رفح على الجانب المصري وفي العريش.
أحدهم قال ذهبت لأجلب أختي التي لم نرها منذ اثني عشر عاما وآخر ذهب ليقابل خطيبته التي انقطع عنها خمسة أعوام وأمهات جررن أمراضهن وعمرهن العتي ليتسلقن الحاجز كي يشاهدن أبناءهن بعد انقطاع بدا انه لن ينتهي.
وأم شاهدت لأول مرة ابنها المبعد منذ عشر سنوات واحتارت ملامح وجهها بين الدموع وبسمة الفرح.
أما الصيادون الذين صدأت مراكبهم فعادوا لأول مرة بالسمك من بحر لم تصله شباكهم منذ سنوات.
هذه صور لم ينقلها للأسف الإعلام، لا العالمي ولا العربي.
كما لم ينقل بالعمق والزخم المطلوب حجم الدمار الذي خلفه جيش الاحتلال في ارض محروقة بالمعنى الحرفي للكلمة.
سواء ركام بيوت المستوطنات المدمرة، وأشجار النخيل والفواكه المقتلعة والمحترقة، أو صور الأراضي الزراعية المجرفة وعشرات الكيلومترات من الطرق والبنى التحتية، وخطوط المياه والكهرباء التي جرفت عن بكرة أبيهـا.
ولم يعرف الإعلام كيف ينقل صور ما سموه الكنس، التي خربها الإسرائيليون قبل أن يخرجوا دون أن يتركوا فيها نافذة ولا باب ولا مصباح الا وحطموه، ثم اخذوا يندبون لان الفلسطينيين سيهدموها.
حتى العيادة الوحيدة التي تركوها، لم يكن فيها جدار واحد غير ممزق ولا مغسلة غير محطمة ولا نافذة غير مهشمـة.
أرض محروقة، ودمار حاقد شامل.
وبالمقابل لم ينقل الأعلام صور الدمار الهائل لآلاف البيوت الفلسطينية في رفح وخانيونس والمناطق الوسطى التي كانت هدفاً لمرمى النيران الإسرائيلية على مدار سنوات. والتي يغدو مشهدها صاعقاً عندما يراها الإنسان من الجانب الآخر، تذكرنا بمشهد المدن المدمرة في الحرب العالمية الثانية، كاشفة حجم الجريمة التي ارتكبها المحتلون ضد آلاف البيوت، ومئات الشهداء بمن فيهم راشيل كوري وتوم هارندل الذين لم تحمهم جنسيتهم الأمريكية والبريطانية من أن يسقطوا شهداء برصاص الجيش الإسرائيلي وهم يحاولون حماية بيت وطفل في رفح.
ومع كل ذلك لم يجد بعض الإعلاميين ما ينقلوه سوى صور الفقراء الذين هرسهم الفقر والعوز وهم يبحثون بين ركام المستوطنات عن ما يساوي بضعة شيكلات من الألمنيوم أو الخشب ووجهوا اللوم للناس البسطاء على الفوضى، دون أن يسأل أي منهم، أين ذهبت لجان المساندة والحماية وفرق الدعم التي انفق عليها الكثير ولم نر لها وجودا في مستوطنات غزة.
لم يصور الإعلام جدار الفصل العنصري الجديد الذي بدأت أجزاء منه بالظهور في شمال غزة، ولا طائرات الاحتلال التي تمسح شوارع ومدن القطاع بالبوصة على مدار الساعة، ولا الشريط الشمالي والشرقي الذي ما زال محتلاً بدبابات الاحتلال والمرابطة داخل حدود قطاع غزة.
انتصر شعب غزة بصموده وكفاحه ومقاومته وفشل الإعلام في أن ينقل للعالم صورة شعب أسير خرج من الزنازين، ليواجه مخاطر سجن محكـم.
ولم ينجح الإعلام في تصوير الوعي الذكي لأبناء وبنات شعبنا في قطاع غزة، والذين فهموا أن الاحتلال لم ينته بعد، وأنهم خرجوا من زنازينهم ليجدوا أنفسهم في سجن كبير محاط بجيش الاحتلال.
التقينا خلال تجوالنا في القطاع من شماله إلى جنوبه بالآلاف من الناس ورجال الأمن الوطني والشرطة المرهقين بتعب لا يوصف دون أن يتذمروا ولم نسمع من كل من قدمنا له التهنئة بخروج المستوطنين إلا جواباً واحداً ظل يتكرر دون تغيير.... فرحتنا الحقيقية عندما تتحرر القدس والضفة. وعلى عكس بعض الفصائل التي تبدي عجزاً عن الذوبان في محيط الوطن الواسع ومشاعره الكبيرة بعيداً عن التنافس الفصائلي والفئوي وحرب الرايات المتنافسة، فان الناس فرحوا ولم يفرطوا في الاحتفـال.
ولذلك لن تقلقنا محاولات فصل غزة عن الضفة وأوهام شارون بتصفية وحدة مصير الشعب الفلسطيني وطموحه للاستقلال في وطن حر وموحد.
الذي يقلقنا هو غياب الاستراتيجية الوطنية المشتركة في مواجهة هجوم شارون السياسي. ونجاح إسرائيل الإعلامي في إخفاء معالم جريمتها طوال ثمانية وثلاثين عاماً خلف تأوهات ومعاناة مزيفة لمستوطنين لصوص اضطروا أن يتركوا ما سرقوه من ارض وبحر، وما زالوا يصرون على إبقاء هيمنتهم على معابر وبحر وجو قطاع غزة.
ويقلقنا تبختر شارون في أروقة الأمم المتحدة في الذكرى الثالثة والعشرين لمجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها، يتلقى النياشين وجوائز التطبيع من وزراء العرب والمسلمين ودون أن يعلو في نفس الأروقة صوت يمثل ويعبر عن صوت المظلومين والمحرومين الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، والمطوقين بسبعمائة حاجز وجدار فصل إجرامي في سجون مقطعة الأوصال في الضفة الغربية والقدس. صوت آلاف السجناء من غزة والضفة والقدس الذين ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال. وصوت صيادي وبحارة غزة الذين تمنعهم زوارق الاحتلال عن الإبحار لمتر واحد أعمق من الكيلومترات الخمسة المحددة لهم، حتى بعد خروج المستوطنين والحكم العسكري.
إن ما يريده الفلسطينيون ونريده، رؤية واضحة لكيفية مواجهة الأمر الواقع الإسرائيلي بالأمر الواقع الفلسطيني والهجوم السياسي الشاروني بهجوم سياسي مضاد. ما نريده الدعوة فوراً لمؤتمر دولي يفتح ملفات قضايا الحل النهائي في إطار القانون الدولي والشرعية الدولية، وفتح فوري لملف محكمة لاهاي وقرارها ضد جدار الفصل العنصري للضغط على إسرائيل كي تزيل الجدار أو تواجه العقوبات.
وما يريده الناس قرار فلسطيني مصري بإبقاء معبر رفح مفتوحاً وحملة ضغط لتحقيق عبور آمن بين الضفة والقطاع، ووقفة شعبية شاملة تقتدي ببلعين في تصديها لجدار الفصل العنصري.
وقديماً قيل