بالعربي...... ليس انسحابـاً

في عصر تدفق المعلومات، وقنوات الاتصال المفتوحة، وتحول العالم إلى قرية واحدة كبيرة. تصبح السيطرة على المعلومات التي تصل إلى الناس وتقنعهم، احد أهم أهداف كل طرف في أي صـراع.
وقد كان قدر نضال الشعب الفلسطيني أن يتواصل عبر قرن من الزمان شهد أكثر من انقلاب شامل في مفاهيم وتقنيات ووسائل الصراع أهمها السيطرة على الرواية والإعلام.
وفي العصور الغابرة كانت الأحداث تقع وتؤثر في الناس المحيطين بها فقط. ثم تطور الإعلام ووسائله وأصبحت الأحداث تقع وتؤثر في الناس إن عرفوا بوقوعها، ولا تؤثر بهم إن لم يعرفوا بها. أي أصبح تأثير الأحداث مرتبط بالإعلام عنها. وفي ذلك قالت الكاتبة المعروفة فرجينيا وولف مقولتها المشهورة " ان شيئاً لم يحدث حتى يتم وصفه".
ولذلك كانت مجزرة دير ياسين معلماً بارزاً في الوعي الفلسطيني الذي عرف عنها، ولا شيء بالنسبة لمعظم العالم الذي أخفيت عنه.
أما القفزة الثالثة في علاقة الحدث بالإعلام فقد حدثت مع بدايات قرننا الواحد والعشرين، بدخول الإعلام عصر الرقمية (الديجيتال) والانفجار المتسلسل للفضائيات ومواقع الانترنت وأجهزة الاتصال اللاسلكية المتنقلة.
ووصلنا إلى المستوى الأكثر خطورة، حيث يمكن أن يقع حدث هام مثل مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين ولا يعرف العالم شيئا عنه، فكأنه لم يحدث. ويمكن أن لا يحدث شيء ويتناقل إعلام العالم بتخطيط محكم ما لم يحدث على انه حدث فيصبح واقعاً عنيداً، وأبرز الأمثلة على ذلك "أسلحة الدمار الشامل في العراق " التي لم يكن لها وجود وأصبحت سبباً للحرب. وأخر الأمثلة "الانسحاب" من غزة الذي حدث في العقول والأفئدة لان الإعلام وصفه وقدم مسرحيته مع انه لم يحدث.
وقد نفهم سبب وقوع الإعلام الأجنبي في هذا الفخ بحكم تأثير الوسائل الإسرائيلية المتقنة فيه وانحياز بعضه المطلق للرواية الإسرائيلية. أما أن يقع فيه الإعلام العربي وحتى الفلسطيني بفضائياته وصحفه المليئة بالمراسلين الفلسطينيين فلا تفسير لذلك إلا عدم كفاءة الرواية الفلسطينية الرسمية والفصائلية وتخلف الإعلام الفكري والنقدي رغم تقدمه التقني وثرائه بالموارد المالية، وعجزه أو كسله عن إرفاق المتابعة الإعلامية بالتحليل النقدي السليم.
فمنذ أكثر من عامين صار واضحاً أن خطة شارون هي تصوير فك الارتباط في غزة على انه انسحاب وإنهاء الاحتلال، واستخدام ذلك للتغطية ولتبرير فرض إسرائيل حلها المنفرد لكافة قضايا الحل النهائي عبر جدار الفصل العنصري بضم وتهويد القدس وتقطيع أوصال الأراضي المحتلة إلى جيتوات ومعازل وتدمير التواصل الجغرافي ووحدة قضية الشعب الفلسطيني ومصيره وتحويل فكرة الدولة المستقلة إلى دويلات هزيلة وحلول مؤقتة في إطار نظام تمييز عنصري أسوأ من نظام الابارتهايد الذي ساد جنوب إفريقيا. ولا يؤثر على تلك الصورة اضطرار إسرائيل إلى تفكيك مستوطنات غزة فذلك التفكيك هو الثمن التكتيكي الصغير لتحقيق كسب استراتيجي كبير.
فمستوطني غزة الذين تم إخلاءهم لا يمثلوا سوى 2% من مجموع 000ر436 مستوطن ما زالوا يقيمون في الضفة الغربية والقدس، وقد انضم عدد كبير منهم إلى مستوطنات معاليه ادوميم وارييل وغيرهـا.
ومساحة غزة لا تمثل سوى 1% من ارض فلسطين و6% من الأراضي المحتلة.
والاهم من ذلك أن "الانسحاب" لو وقع يعني إنهاء سيادة إسرائيل وسيطرتها على البحر والبر والجو وعلى المعابر من والى قطاع غزة، وانتقال السيادة لطرف آخر.
فما الذي حدث؟ إسرائيل فككت المستوطنات القليلة والتي لم تعد تستطيع الحفاظ عليها بدون تكلفة باهظة وأبقت سيطرتها على القطاع ومعابره، وأقصى ما عرضته على الفلسطينيين والمصريين والمبعوثين الدوليين أن تسمح لسكان غزة بالخروج كما يريدون مع مواصلة السيطرة الإسرائيلية على قرار دخول القطاع للسكان والبضائع والأشياء، ومواصلة السيطرة على البر والبحر والجو في سجن غزة.
ومقابل ذلك انطلق شارون في حملة للحصول على الجوائز والمديح والمكاسب السياسية بتطبيع علاقات إسرائيل مع الباكستان وقائمة طويلة من الدول العربية والإسلامية ودون إنهاء الاحتلال، والاهم من ذلك الحصول على صمت مريع على استكمال جدار الفصل العنصري وضم القدس وتوسيع مستوطنات الضفة الغربيـة.
وإذا كان ما جرى بعد اوسلو سيئاً فان ما يجري الآن فاجعة سياسية. ولعل الفصائل والأجهزة التي بالغت في إطار تنافسها الفئوي، في تصوير ما جرى في غزة على انه تحرير شامل، تراجع رؤيتها السياسية بعد أن وجدت نفسها تتدافع لانتقاد الباكستان على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ولعلها تدرك أن مبالغاتها الاحتفالية قد استخدمت بذكاء لتمرير الرواية الإسرائيلية للعالـم.
ولعل السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تسأل نفسها ما الذي يلزمها بمواصلة الانضباط في موقع المتفرج السياسي وشارون يشن هجوما سياسيا عارما للإطاحة بكل منجزات الانتفاضة ونضالات الشعب الفلسطيني؟ وما هي القوة القدرية التي تواصل شل إرادتها السياسية ومنعها من المطالبة على الأقل بعقد مؤتمر دولي فوراً لفتح قضايا الحل النهائي، وما الذي يردعها عن حمل ملف قرار لاهاي ضد جدار الفصل العنصري لمؤسسات الأمم المتحدة، وهو ما نصحنا به كل خبراء القانون الدولي وأصدقاء الشعب الفلسطيني، قبل أن يطير شارون إلى نيويورك لانتزاع الأوسمة والمباركة الدولية وربما جائزة نوبل للســلام!!!!
الم يحن الوقت لنقول للعالم الحقيقة ونحاول انتزاع زمام المبادرة السياسية من شارون.
وبدل التفاوض الخجول على عبور السكان والقبول الضمني بفصل الخروج عن الدخول والناس عن حقائبهم وأشياءهم والغرق في مستنقع التفاصيل الصغيرة لنهج تجزئة القضايا الإسرائيلي، والاستكانة لأوهام إنعاش الاقتصاد داخل سجن غزة، الم يحن الوقت للعودة إلى جوهر الأمر والإصرار على إنهاء الاحتلال والاستيطان وتحرير القدس وحقوق اللاجئين كمكونات لا تفصل عن بعضها البعض لقضية فلسطين، قضية التحرر الوطني والكرامة والاستقلال بتطبيق الشرعية والقانون والقرارات الدولية.
بالأمس أشارت التقارير الصحفية إلى مفهوم الأمن القومي الجديد لإسرائيل والذي طوره فريق رفيع المستوى برئاسة دان مريدور وعضوية رئيس مجلس الأمن القومي. واخطر ما شمله المفهوم الأمني الجديد إقراره بازدياد أهمية الأسرة الدولية وتعاظم قدرتها على فرض خطوات على الدول في أرجاء العالم، ومعنى ذلك بكلمات التقرير "إن الضغط سيشتد على إسرائيل لوقف سيطرتها على الأراضي المحتلة عام 1967”. اليست هذه فرصة الشعب الفلسطيني لمزج كفاحه الشعبي بنشاط دولي واسع لفضح وعزل ومعاقبة السياسة الإسرائيلية والضغط عليها، بدل المساهمة بالفعل الخاطيء أو السلبية القاتلة والبلادة السياسية عن قصد أو دون قصد في تمرير الرواية الإسرائيلية والخداع الموجه نحو تنفيس الضغط الدولي قبل أن يتفاقم.
كم كنا نتمنى لو أن لجنة واحدة من اللجان التي أغدق الصرف عليها لتنسق استلام ركام المستوطنات تخصصت في تحديد رؤية استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة لمواجهة تحديات الصراع مع احتلال لا يرحم ولا ينوى أن يرحم.