بقلم: د مصطفى البرغوثي
الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية
مثلما يستحيل فصل النهر عن منبعه، لا يمكن فصل المرحلة التي بدأنا نعيشها منذ جرت الإنتخابات الرئاسية الفلسطينية عما سبقها.
وخلافاً لما يبدو على السطح من ترحيب إسرائيلي وإحتفاء أمريكي ودولي بالقيادة الفلسطينية فإن الحقائق على الارض لا تشير إلى إنقلاب في الوضع، بل تؤشر لمن لم يصب بخداع الألوان إلى إستمرار التحديات الجوهرية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولعل الأعمال الإسرائيلية التالية تحمل الادلة الدامغة على ذلـك :-
أولاً: إستمرار بناء جدار الفصل العنصري بوتيرة متسارعة في مناطق اسكاكا وسلفيت وبعمق 22 كم داخل أراضي الضفة الغربية، وكذلك في مناطق القدس وبيت لحم والخليل.
ثانياً: الإعلان عن تطبيق قانون أملاك الغائبين على القدس الشرقية، في سابقة خطيرة لم تحدث منذ عام 1967، فيما يمهد الإستيلاء ليس فقط على نصف الأملاك في بيت المقدس، بل ويشمل مصادرة أراضي واسعة واقعة بين بيت لحم والخليل والقدس.
ثالثاً: التحضير لفصل شامل للقدس الشرقية وسكانها عن باقي الأراضي المحتلة وتحويل حاجز قلنديا إلى نقطة حدود، وإستكمال تطويق القدس بجدار الفصل العنصري البشع فيما يستهدف تكريس واقع ضم القدس من جانب، وخنق العدد الأكبر من سكانها إقتصاديا وإجتماعيا بهدف ترحيلهم عنها.
رابعاً: إستمرار أعمال الإجتياحات والإعتقالات والقتل حتى للأطفال كما حدث في رفح للطفلة نوران الديب ألتي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، وإستمرار التنكيل النفسي والجسدي بالناس على أكثر من سبعمائة حاجز في الأراضي المحتلة.
هذه هي الإجراءات التي قوبل بها قرار وقف إطلاق النار الفلسطيني وجنوح مختلف القوى والفصائل الوطنية والاسلامية للتهدئة.
لقد أعلنت الحكومة والرئيس الفلسطيني أنهم سيطبقوا خارطة الطريق وبدأوا بتقديم الإلتزامات الأمنية، فهل أعلنت إسرائيل وقف كافة الأنشطة الإستيطانية كما تنص خارطة الطريق؟ بالطبع لا. هل أعلن شارون التراجع عن مشروع تحويل غزة إلى سجن وفصلها عن الضفة؟ لم نسمع بذلك.
وإذا كان جدار الفصل العنصري كما زعم في يوم من الايام قد أنشيء لأغراض أمنية، فلماذا يستمر بناءه في ظل وقف إطلاق النار؟
وكيف يمكن أن تبرر القيادة الفلسطينية والفصائل الدخول في التهدئة ووقف إطلاق النار، في ظل إستمرار بناء جدار الفصل العنصري؟
أم انها ستجد نفسها بعد وقف الأعمال العسكرية عرضة لضغوط جديدة، لوقف التحريض والنضال السياسي ولإلغاء المناهج الفلسطينية، وإستمرار المطالب بتفكيك المنظمات الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى؟
كل شعب، وكل قيادة تحتاج لبوصلة استراتيجية إن أرادت أن تصل إلى أهدافها، وبوصلتنا كانت دائماً...إنهاء الإحتلال وتحقيق الحرية والإستقلال وإقامة دولة مستقلة كاملة السيادة وحماية حقوق اللاجئين.
والإنتفاضة لم تقم لرغبة الشعب الفلسطيني في المعاناة، أو لرغبة من شارك فيها في ممارسة العنف، أو حتى النضال السلمي؟ بل قامت كاجراء دفاعي لأن نفق أوسلو قاد الى باب مسدود وصار عنوان المرحلة "وقف الصراع من جانب واحد، وإستمرار إسرائيل بضم وتهويد الأراضي الفلسطينية وسياسة فرض الأمر الواقع، وذهل الفلسطينيون وهم يرون تبخر حلمهم في الحرية والإستقلال مع مرور كل يوم.
واليوم وبعد أربع سنوات وأربعة أشهر من الإنتفاضة، فإن كل قائد فلسطيني مطالب بالإجابة حول ما سيفعله لضمان عدم ضياع تضحيات ثلاثة آلاف وستمائة شهيد فلسطيني وسبعة وخمسين ألف جريح وثلاثين ألف معتقل وسجين ما زال ثمانية آلاف منهم يقبعون في السجون والمليارات من دمار البنية التحتية والزراعية وعذاب وآلام شعب بكامله على إمتداد ألف وستمائة يوم من المعاناة والإهانات والتنكيل على الحواجز وخلال الإجتياحات!!
بعد التهدئة ووقف إطلاق النار (وهو بالمناسبة تعبير مغلوط يدل على مدى تسرب الرواية الإسرائيلية للمفاهيم السياسية – إذ أن وقف إطلاق النار يجري بين جيوش متحاربة وليس بين إحتلال وشعب تحت الإحتلال)، سيبرز السؤال الحتمي، هل نسير في إتجاه إنهاء الإحتلال وإزالة المستوطنات والجدار وقيام دولة مستقلة ذات سيادة على جميع الأراضي المحتلة، وعلى حدودها مع مصر والأردن وإسرائيل، أم سنحاصر بفكرة الدولة المؤقتة أو الحل الانتقالي طويل المدى والذي يعني قيام كيان هزيل – بدل دولة على 42% من الضفة الغربية وقطاع غزة ذو صلاحيات على السكان ويقوم بدور الوكيل الأمني للإحتلال، مما سيعني عملية موت بطيء لعروبة القدس وحقوق اللاجئين وسيادية الدولة الفلسطينية.
ولا يتطلب الأمر ذكاءً مفرطاً لإدراك أن حلاً مؤقتاً طويل الأمد يعني فرض الحل الإسرائيلي للصراع بصورة نهائية.
إذاً نحن في صراع مفتوح. مع إطلاق النار وبدون إطلاق نار ، الصراع مستمر.
وهناك فرق بين وقف إطلاق النار ووقف الصراع.
وإذا كان المجتمع الفلسطيني يتوق إلى إنهاء عسكرة المجتمع، وإلى لحظة هدوء يلتقط فيها أنفاسه وإلى سلام حقيقي، فإنه بالتأكيد ليس تواقاً ولا يمكن أن يقبل الإستسلام لإرادة إسرائيل.
وفي هذه الحالة فالمطلوب ليس فقط إدارة المفاوضات، بل إدارة عناصر الصراع حتى تؤدي المفاوضات إلى النتيجة التي نريدها.
إدارة الصراع تجمع بنجاح بين الكفاح الشعبي والجماهيري – غير العسكري – ضد الجدار والإستيطان والإجراءات الإسرائيلية وبين نشاط تضامن دولي وحركة دولية دبلوماسية نشطة في كل العالم وتترافق مع دعم شامل لصمود الناس وخاصة في المناطق المهددة والمتضررة وإستراتيجية شاملة لإصلاح داخلي يجتث كل أشكال الفساد ويعزز البنيان الديمقراطي ويستقطب ثقة الناس ووحدة كفاحها وعملها.
إن لب التحدي هو عدم الإنجرار ألى نفق الاتفاقات الجزئية والانتقالية، أو لمفاوضات عقيمة مرجعيتها ما يقبله شارون وحكومته، والاصرار على العودة الى الشرعية والقرارات الدولية كمرجع وأساس لعملية السلام، ولعل الأصح الإسراع بالدعوة لمؤتمر دولي شامل جديد مشابه لمؤتمر مدريد، يراجع ما جرى منذ انعقاد ذلك المؤتمر ويسترشد بقرار محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للامم المتحدة.
هناك فرصة وهناك أيضاً فخ، كما أن هناك سراب خادع، يغري الذين يصرّون على الراحة والإستجمام في منتصف طريق صعودنا نحو قمة الجبل. فهل نسلك طريق الفرصة الحقيقية نحو الحرية والإستقلال؟