رائد عبد الرازق / غزة
تعلمنا في الرياضيات و في جميع مراحل دراستنا أن مشتقة أي دالة ( تابع أو تطبيق ) هي دالة ( تابع أو تطبيق ) ناتج عن الدالة الأصلية و هي مختزلة من أجل تسهيل دراسة الحالة و هي ( أي المشتقة ) التي تحدد اتجاهات تغير منحنى الدالة من حيث التزايد أو التناقص أو الانعدام و الثبوت و بالتالي فان دراسة المشتقة هي من أهم مراحل رسم المنحنى البياني للدالة الأصلية و هي التي تحدد معالم المنحنى النهائية و اتجاهاته .
نفس ذلك ينطبق على جميع ميادين الحياة و منها المجال السياسي و لعل قراءة هذه الأسطر القليلة يدل على ذلك ، حيث أننا في النهاية سنقرأ تغيرات مشتقة دالة قضيتنا لنصل إلى أين يتجه منحناها البياني و بالتالي مصير الشعب الفلسطيني كاملاً .
1- بعد أن وقعت إسرائيل في حرج كبير و بعد أن تضايقت بشدة بعد انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى عام 1987 م قبلت بمبدأ التسوية السلمية و اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ، و كان هذا أول نتاج تلك الانتفاضة المباركة ، و انطلق مؤتمر مدريد للسلام و قاد الوفد الفلسطيني آنذاك الدكتور حيدر عبد الشافي ، الرجل الفلسطيني الوطني النزيه و الذي يجمع عليه كل الشعب بمختلف تياراته السياسية ، و كان الوفد يضم خيرة أبناء الشعب الفلسطيني من الكفاءات و قدم ذلك الوفد نموذجاً رائعاً في قيادة عملية التفاوض ، حيث رفض د. حيدر التقدم خطوة واحدة في المفاوضات إلا بعد وقف جميع النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية ، فوقعت إسرائيل في حرج آخر و مأزق حقيقي ، و للأسف الشديد و المؤلم جداً أنقذها من ذلك المأزق اتفاق أوسلو الهزيل و المنخفض السقف و الغير محدد المعالم ، فعاد الوفد المفاوض يجر الخيبة و الألم بسبب ذلك الاتفاق الذي تم دون علمه و دون استشارته و دون موافقته ، و هنا كان أول اختطاف للقرار السياسي من يد الشعب الذي ضحى .
هنا أول اشتقاق ، حيث تم اشتقاق مؤتمر مدريد الدولي العلني إلى اتفاق أوسلو الذي تم من تحت الطاولة .
2- وعدونا بعد ذلك بسنوات من الرخاء و العز ، و قالوا لنا ستكون غزة سنغافورة الشرق الأوسط و ستتدفق عليكم الأموال و الاستثمارات من كل حدب و صوب .................. الخ ، لكن و بعد أن انتهت فترة الحكم الذاتي و جاء استحقاق إعلان الدولة حسب اتفاق أوسلو وقعت إسرائيل في مأزق آخر لأنها تريد التنصل من الاتفاق ، و للأسف أنقذها مرة ثانية قرارنا السياسي ، فأجل الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية و هي لم تعلن حتى اللحظة و لن تعلن في الأفق المنظور .
هنا الاشتقاق الثاني لأوسلو حيث تم القضاء على أحد بنوده و هو الإعلان عن قيام الدولة المستقلة على أراضي عام 67 م .
إلى أن وصلنا إلى كامب ديفيد و عندها استدرك قرارنا السياسي الأخطاء السابقة و رفض التنازل عن حق العودة و عن القدس ، لتظهر نوايا إسرائيل علنا للجميع بأنها لا تريد سلاماً ، بل استسلاماً مخزياً و تنازلاً لا مشروطاً عن حقوقنا بالكامل .
خلال تلك السنوات التي مرت وسعت إسرائيل من نشاطاتها الاستيطانية ، حيث تفيد الإحصائيات أن حوالي 50 % من النشاط الاستيطاني تم بعد اتفاق أوسلو و تحت مظلته ، بالإضافة لتنصلها من غالبية الاستحقاقات ، كما و أخذ الوضع الاقتصادي للشعب الفلسطيني يسوء تدريجياً من حيث ارتفاع الأسعار و الاحتكار و فرض الإتاوات و ارتفاع الضرائب و قلة فرص العمل و توزيعها فقط حسب الوساطة و تحجيم العمل داخل إسرائيل و تقييد الحركة عبر المعابر ........................ الخ .
3- عندما تراكمت الأمور على الصعيد الخارجي من حيث تنصل إسرائيل و داخلياً من حيث انتشار الفساد و اتساع دائرته بشكل لم يعرفه أحداً من الشعوب ، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 م ، و عاد الشعب لامتلاك القرار ، و هنا كشرت إسرائيل عن أنيابها بكل شراسة و قسوة و حقد ، حيث أنها لم تدخر أي جهد لديها إلا و بذلته من أجل القضاء على روح المقاومة و التصدي و النضال لدى الشعب الفلسطيني ، لكنها لم تفلح ، قسمت المناطق ، وضعت الحواجز ، نشرت النقاط العسكرية ، قصفت المؤسسات و المباني ، جرفت الأراضي ، هدمت البيوت ، منعت العمال ، قتلت الآلاف ، و أصابت أضعافهم ، اقتلعت الأشجار ، دمرت البنية التحتية ، قضت على الاقتصاد ............... الخ من جرائم يندى لها جبين العالم ، و رغم كل ذلك بقي الشعب صامداً و لم يركع .
و بسبب صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري و عجز إسرائيل ، وقعت الأخيرة مرة أخرى في حرج و مأزق أمام العالم كاملاً ، فأصبحت تبحث عن مخرج لها من الأزمة ، فطلعت علينا بخارطة الطريق التي تم اشتقاقها فيما بعد إلى خطة شارون للانسحاب من غزة ، التي هي إعادة انتشار و ليس انسحاباً ، هذه الخطة أخذ الكثيرون من العرب و من الفلسطينيين أنفسهم يروجون لها علناً و كأنها انتصاراً سياسياً كبيراً ، حتى أحزابنا الفلسطينية بكافة أجنحتها المسلحة وقت في شراك الفخ الاسرائيلي و اعتبرت خروج المستوطنين و الجيش من غزة انتصاراً وبدأت تنظم مسيرات الاحتفالات و العروض المسلحة التي أدت الى العديد من الصدامات الدموية المخزية ، و يعتبرونها فرصة جديدة للعودة إلى مسار السلام ، متناسين بذلك تجربة أوسلو المريرة و التي أثرى من ورائها الفاسدون ثراءً فاحشاً و دفع ثمنها الشعب وحده دون شفقة أو رحمة و وقع الجميع مرة ثالثة في فخ إسرائيل ، هنا و للأمانة العلمية و التاريخية فان المبادرة الوطنية الفلسطينية كانت الوحيدة التي حذرت من الوقوع في الفخ الإسرائيلي و دعت للانتباه جيداً لمخطط شارون ، حيث حين كان الجميع يحتفل بالنصر ( الوهم الذي عرفه الجميع بعد مرور شهرين على الخروج ) كانت المبادرة تنظم المسيرات التي تدعو لليقظة و الانتباه لما يحدث و لعدم الانجرار وراء الاقتتال الداخلي و مخطط شارون .
المهم أنه حدث هنا الاشتقاق الثالث ، حيث تم تصوير الخروج من غزة على أنه تحرير و انتصار كبير و قضي بذلك على سنوات طويلة من الصمود و الصبر و المقاومة و العناء و الجهد . في حين كان ذلك لابد و أن يحدث منذ بداية أوسلو فغزة غزة واحدة و ليس غزة 1994 و غزة 2005 و أنهيت الانتفاضة الثالثة بعد تضحيات رهيبة إلى إنجاز بسيط قيمته لا تساوي شيئا على الأرض ، قيمته فقط 42 % من مساحة قطاع غزة أي تقريباً 143 كم مربع فقط و هذا الاشتقاق وحده خطير جداً ، حيث أن هناك طنطنة عن دولة في غزة فقط أو غزة مرتبطة مع أربع تجمعات سكانية فلسطينية في الضفة مقسمة أساسا بينها و على بوابات كل منها إسرائيل ، في حين أخذت إسرائيل من أراضي الضفة أضعاف ما تركته من غزة مرات عديدة عبر جدار الفصل العنصري .
و لقد أثبتت الأيام القليلة التي تلت خروج المستوطنين من غزة دون شك على أن ما هلل له الجميع على أنه انتصاراً لا يعدو كونه تكتيكاً إسرائيليا و إعادة ترتيب للأولويات قام به شارون بما يخدم مصالح إسرائيل فقط ، و دليلنا أن معبر رفح لم يفتح حتى اللحظة أو سيفتح بوجود طرف ثالث ترضى به إسرائيل رغم عدم وجود إسرائيل على أي من جانبي المعبر ، لن يدخل و لن يخرج أي فلسطيني لا يحمل الهوية الإسرائيلية ( يقولون لنا في الإعلام الهوية الفلسطينية ، لكنها في الواقع الهوية الإسرائيلية ، علينا ألا نكابر و أن لا تأخذنا العزة بالإثم لأننا بذلك نعفي إسرائيل من تحمل نتائج احتلالها لنا ) ، الصيادين لا يدخلون بحر غزة إلا لخمسة كيلومترات فقط ، المرضى ممنوعون من العلاج داخل إسرائيل ، المواطنون ممنوعون من التوجه للضفة و حرية التنقل بين شطري الوطن مفقودة ، تم زيادة حجم توغل القصف الإسرائيلي لقطاع غزة بالطائرات ، لا سيادة فلسطينية على معير كارني و لا بيت حانون ، لا عودة للاجئ واحد ، الاغتيالات الإسرائيلية مستمرة و لم تتوقف لحظة ، فأين النصر و التحرير إذاً ؟ أين ؟ أرونا معلم واحد من معالم النصر .
الاشتقاق الرابع الخطير الذي هو قيد الحدوث و الترتيب على نار هادئة يتمثل في الفصل التام بين الضفة الغربية ( يقولون لنا في الإعلام الضفة الفلسطينية ، لكنها في الواقع الضفة الغربية لأن كلمة الضفة الفلسطينية اعتراف بالحدود التي ترسمها إسرائيل للضفة ) و قطاع غزة ، حيث يمنع على سكان غزة التضامن و التآزر مع إخوانهم في الضفة ، القتل يحدث في الضفة فلا يحق لأهل غزة التدخل ، الذبح يحدث في الخليل ونابلس و طولكرم و لا يحق لخان يونس و جباليا و رفح الرد أو التضامن مع نصفهم الثاني .
الاشتقاق الخامس و الأخطر من سابقه هو الفصل بين فلسطينيي الداخل و فلسطينيي الخارج و المنافي و الشتات و النزوح و اللجوء و لعل أكبر معالم هذا الاشتقاق هو الخلاف الرهيب الذي دب و مازال بين رموز السلطة في الداخل و قيادات المنظمة في الخارج مما يهدد بإلغاء دور منظمة التحرير التي نحن في أمس الحاجة لإعادة بعثها .
فالقراءة بكل بساطة تقول أن في كل مرحلة يتحرك فيها الشعب يحدث اشتقاقاً للقضية و زيادة لتصفيتها و القضاء عليها بقصد أو بدونه و ذلك ما هو الا نتيجة حتمية لغياب النظام و الوحدة و البحث عن الفئوية و المصالح الشخصية ، الشعب الفلسطيني قدم و مازال يقدم أمثلة رائعة في الصمود و التحدي لكن غياب القيادات الفاعلة يبدد كل ما يقدمه الشعب ، و الا فكيف أن جميع ثورات و انتفاضات الشعب الفلسطيني منذ عز الدين القسام الى اليوم لم تجن سوى 5.8 % من أراضي عام 67 و 1.4 % من أراضي فلسطين التاريخية ، أي ثورة هذه التي تنتهي كل مرحلة فيها بالفشل و المهانة و الكوبونة و البطالة و يصبح حلم المواطن أن يحصل على 600 شيكل لثلاث شهور فقط في حين يزداد ثراء أعضاء المجلس التشريعي لدرجة الفحش لدرجة أن يكيفوا قانوناً خاصاً لضمان معاشاتهم الخيالية بعد انتهاء ولايتهم التي لم يحدث في التاريخ أن وصلت لعشر سنوات دفعة واحدة كما حدث عندنا ؟ أي ثورة هذه التي تنتهي الى الهوان و الذل الذي نحن فيه حيث تبقى المناصب القيادية حكراً لنفس الاشخاص الذين تسببوا لنا في مآسي كبرى ؟
و بعد ؛ إن أمام الشعب اليوم فرصة تاريخية في انتخابات المجلس التشريعي القادمة .
الفرصة هذه لن تتكرر الا بعد 4 سنوات و بالتالي على الشعب أن يختار بعناية تامة ممثليه ليقولوا كلمته في كل ما يتعلق به ، و لعل تجربة التشريعي السابقة التي لم تخدم أحداً من الشعب ، و لم تخدم الا أصحابها و من يدور بفلكهم فقط ، تشكل نابضاً و ناقوساً يدق على الشعب بأن ينتبه للمرة الأخيرة و الا على القضية السلام و بعدها لا ينفع الندم و لا البكاء .
و هنا لابد من صرخة مجلجلة ، بل صرخات مدوية ؛ تنطلق من ضمير الشعب ، من ضمير الشهداء الذين آثروا الموت ليحيا أبناؤهم حياة كريمة ، من ضمائر الأرامل اللائي فقد أزواجهن و جلهن من الفتيات الشابات اللائي سرقت إسرائيل فرحتهن ، من ضمير الأمهات اللائي فقدن أبنائهن و غالبهم في عمر الزهور لتسرق إسرائيل فرحة عمرهن، من ضمير العمال العاطلين عن العمل ، من ضمير الطلبة الذين لا يملكون رسوماً لتعليمهم ، من ضمير الأسرى الذين يمارس عليه كل أصناف القهر ، من ضمير أطفال المدارس الذين قصفت مدارسهم ، من ضمير الجرحى الذين رووا بدمائهم تراب أرض الرباط المقدسة ، من ضمير اللاجئين الذين يحلمون ليل نهار ببيت سقفه من باطون ، من ضمير الشعب الفلسطيني المكافح المناضل المعذب ، لابد من صرخة قوية مجلجلة تردع كل من يحاول أن يتاجر بآلام الشعب و يتنازل عنها من أجل أوسلو جديد ، صرخة تنادي بضرورة وجود النظام و القانون و الوحدة و نبذ الحزبية الضيقة فنحن على أعتاب المرحلة النهائية لتصفية القضية .