المتبع للشأن السياسي الفلسطيني الداخلي ينظر بارتياح لتوجه كافة قوى الشعب الفلسطيني باتجاه حسم إجراء الانتخابات في موعدها أي في يوم 25/1، حيث أصبحت أي الانتخابات هي المخرج الوحيد لتجاوز أزمة النظام السياسي الفلسطيني وباتجاه إنهاء حالة الشرذمة والتناقص وازدواجية السلطة ومن أجل تعزيز المشاركة السياسية في صناعة القرار الوطني ترسيخاً لأوسع وحدة وطنية وذلك عبر المشاركة المحددة بإرادة المواطنين الحرة الناتجة عن صندوق الاقتراع ،على طريق إعادة بناء المؤسسة السياسية الفلسطينية دون إقصاء أو احتواء أو تفرد .
حيث من المأمول أن يعمل ذلك على إنهاء حالة الفلتان الأمني ومحاولات أخذ القانون باليد وسيرسخ معاني المواطنة المتساوية والمتكافئة على قاعدة أن المواطنين أمام القانون سواء في تجاوز للبنى والتجمعات العضوية ومراكز القوى التي تكونت في تعدي صارخ على البنى القانونية والمؤسسية القائمة .
فمن الطبيعي أن يتم تشكيل خارطة سياسية وحزبية جديدة على ضوء موعد الانتخابات المرتقبة تتحدد عبر رأي وإرادة المواطنين في تجاوز لنظام الكوتة والمحاصصة الفصائلية الذي ساد منظمة التحرير الفلسطينية لمدة تتجاوز الثلاثين عاماً ، حيث سيتم تعزيز بعض القوى وسيتجاوز صندوق الاقتراع المحدد بنسبة الحسم العديد من القوى الأخرى التي كانت ذات مكانة ونفوذ في النظام السياسي الفلسطيني السابق ، نتيجة عدم تمكنها من اجتياز نسبة الحسم المحددة ب2% من نسبة المقترعين ، وفي آلية تعتمد المشاركة أساساً لها ، في إطار بناء مؤسسي يربط بأحكام بين القدرة على تحقيق الأهداف الاجتماعية ذات العلاقة بمصالح الفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمشة،وكذلك الأهداف القانونية والحقوقية وخاصة بالمجال الديمقراطي الذي يضمن حرية الرأي والتعبير والنقد والصحافة الحرة ، والتجمع السلمي.
ومن الضروري بمكان التأكيد على الحفاظ على التراث الثقافي والقانوني والسياسي الفلسطيني رغم التبدلات المتوقعة في التركيبة السياسية والحزبية في إطار المجلس التشريعي القادم ، حيث إن تلك الانجازات أو محتويات التراث أو الذاكرة الجمعية ، هي نتاج جهد وفكر وعمل وتضحيات ، ونتاجاً طبيعياً للتطورات الثقافية والمعرفية في العقل السياسي الفلسطيني والتي ترسخت وتعمقت في وثائق وقرارات وقوانين وأعراف وتوجهات عامة ، فلا يمكن القفز عن وثيقة الاستقلال الفلسطيني والتي شكلت تحولاً نوعياً في الفكر السياسي الفلسطيني باتجاه الواقعية والعقلانية المستندة لحقوق شعبنا وبالاعتماد على قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني ، ولا يمكن كذلك القفز عن تلك القوانين الدولية المناصرة لحقوق شعبنا ، سواءً القرارات الصادرة عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو المحاكم الدولية والتي كان آخرها قرار محكمة لاهاي الاستشاري بخصوص عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري بالضفة الغربية ،كما لا يمكن تجاوز القانون الأساسي والذي عملت منظمات المجتمع المدني والعديد من الكتاب و المثقفين جل جهودهم باتجاه اعتماده من قبل السلطة التنفيذية وذلك بصدد ترسيخ حكم القانون في إطار يضمن الفصل بين السلطات ويعزز من استقلالية القضاء ، هذا القانون الذي يرسي أسس سيادة القانون في إطار من الديمقراطية عبر تأكيد مبدأ دورية الانتخابات وانتظامها، وفي إطار يضمن الاحترام للحريات العامة وخاصة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومنها الحق بالتعبير والرأي والمعتقد والنقد والصحافة الحرة والتجمع السلمي ......... إلخ ،وكذلك قانون الانتخابات النيابية العامة الذي يضمن التوازن ما بين الدوائر والقوائم تعزيزاً للتنوع والتعددية في إطار المؤسسة التشريعية الفلسطينية .
هذا بالإضافة إلى سلسلة القوانين والتشريعات وأهمها قانون استقلال القضاء وكذلك القوانين ذات العلاقة بالحرية مثل قانون الصحافة والنشر ومصالح الفئات الاجتماعية الضعيفة من أجل صونها وضمان حقوقها في تجاوز واضح لنظام الزبائنية السياسي الذي كان أحد إفرازات النظام السياسي الفلسطيني في المرحلة السابقة.
وبرأي فإن ما يهم العديد من المثقفين والكتاب وأصحاب الرأي وكذلك بعض القوى والفاعليات السياسية المؤمنة بالتوجه الديمقراطي وكذلك منظمات المجتمع المدني ومنها المنظمات الحقوقية أن يتم الحفاظ على الانجاز وعدم تجاوزه أو النكوص عليه خاصة فيما يتعلق ببعض الانجازات السياسية ( وثيقة الاستقلال ، قرار محكمة لاهاي، قرارات الشرعية الدولية مثلاً) وفيما يتعلق بالقوانين ذات العلاقة المفصلية مع الأبعاد القانونية والديمقراطية والاجتماعية والحقوقية(القانون الأساسي،قانون الانتخابات العامة،قانون استقلال القضاء، الصحافة والنشر .....إلخ ) .
إن الإقرار بمبدأ دورية الانتخابات يقتضي كذلك إجراء عملية فصل ما بين الحزب الحاكم والمؤسسة الرسمية حيث أن التداخل بينهما يؤدي إلى تجير المؤسسة الرسمية ومواردها لصالح أفراد الحزب الحاكم ، الأمر الذي يفترض تعزيزاً لهذا الفصل في سياق الدولة وخاصة الأجهزة الأمنية بها عن الحزب الحاكم كما يحدث في جميع من البلدان الديمقراطية.
من حق جميع الكتل الانتخابية والقوى العمل على صياغة التشريعات والقوانين بما يتناسب مع توجهاتها الفكرية والسياسية ، ولكن بما يضمن الحفاظ على وحدة نسيج المجتمع، وضمان سلامته الداخلية بعيداً عن التوجهات الطائفية أو العقائدية أو الجهوية، أي في تجاوز واضح لمنطقي التكفير والتخوين التي كانت تمارسهما بعض القوى الشمولية في بعض البلدان وفق بعض التجارب المأساوية، أي باتجاه إقصاء الرأي الآخر واحتكار الحقيقة في زمن يؤكد الباحثون نسبيتها وخضوعها دائماً لتجربة الحياة باتجاه تزكيتها أو لتجاوزها .
ومن أجل تجاوز حالة القلق المشروعة بين بعض الأوساط الثقافية فاعتقد أنه من المناسب قيام جميع القوى والكتل الانتخابية المتنافسة بالإعلان عن ميثاق تفاهم يؤكد على ضرورة احترام الدستور الفلسطيني ( القانون الأساسي ) وخاصة في مجال دورية الانتخابات المحددة بكل أربعة سنوات مرة وفي مجال احترام الحريات العامة وخاصة حرية الرأي والتعبير والصحافة والتجمع ، و في مجال صيانة حقوق الفئات الاجتماعية الضعيفة، وخاصة حقوق النساء وفي مجال احترام مبدأ سيادة القانون ومبدأ القضاء العادل والنزيه والمستقل .
إن هذا الميثاق سيعمل على ترسيخ عملية التحول الديمقراطي دون الخوف من احتمالية النكوص عنها أو التراجع لأسباب فئوية أو حزبية وضمن مسوغات فكرية محددة ، فقد آن الأوان للإقرار بآلية التحول الديمقراطي بصورة منتظمة ودورية ودون التعامل معها كمنصة للوصول إلى المؤسسة السياسية الفلسطينية ، فالديمقراطية لها استحقاقات واشتراطات ومنها الانتخابات ولكن بها عناصر ضرورية وهامة أخرى قائمة على صيانة حقوق الأقليات وضمان الحريات العامة وترسيخ أسس سيادة القانون والفصل بين السلطات ..... إلخ .
ويقيني أن جميع الأطراف بالمجتمع الفلسطيني ارتضت السير وفق النهج الديمقراطي الذي يفترض موافقتها على ميثاق التفاهم المقترح من أجل ترسيخ ضميراً جمعياً قائم على احترام الرأي والرأي الآخر وتعزيزاً لثقافة التسامح والاختلاف على أن يكون الحكم دائماً هو القانون ورأي المواطن المحدد بواسطة صندوق الانتخابات الدورية.