فلسطين أمام التحدي!!
بقلم: د. مصطفى البرغوثي

فلسطين أمام التحدي!!
• د. مصطفى البرغوثي

بعد أن هدأ غبار الحملات الانتخابية، صار واجبا الارتقاء فوق المصالح الحزبية والفصائلية، وإسناد الأفعال والمواقف إلى فهم دقيق لطبيعة التحديات التي تقف أمامنا كفلسطينيين.
وأول هذه التحديات، سيتمثل مباشرة بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، بمخاطر فرض إسرائيل لحل منفرد من جانب واحد مضمونه تكريس تهويد وضم القدس والأغوار ومناطق الاستيطان الكبرى لإسرائيل، أي ابتلاع أكثر من نصف الضفة الغربية وتحويل ما تبقى إلى كانتونات ومعازل، واغتيال مضمون الدولة المستقلة بجعلها حكم ذاتي هزيل في إطار نظام فصل عنصري بغيض.   
ولن يهم في هذا الإطار إن كانت بعض السجون كقطاع غزة أكبر من بعضها الآخر كسجن قلقيلية، فهي كلها في النهاية سجون ومعازل، تدار بنظام تحكم إسرائيلي يتراوح بين الاحتلال العسكري المباشر إلى الاحتلال الالكتروني كما هو واضح في غزة التي ما زال البعض يصر أنها قد تحررت.
وتمهد إسرائيل لهذا السيناريو بالادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني أو مجال للتفاوض، بعد فوز حماس، رغم أن انتخاب الرئيس أبو مازن قبل عام لم يجعل إسرائيل تفتح أبواب التفاوض، بل أمعنت في إغلاقها.
وهكذا فان التحدي الأول سيكون محاولة إسرائيل فرض الفصل الختامي في مشروع الحركة الصهيونية المعدل بإنشاء إسرائيل الوسطى (بدل الكبرى) وتحطيم فكرة الاستقلال الوطني للشعب الفلسطيني.
ومضمون التحدي.. كيف نواجه هذا المخطط، وكيف نفشله، وكيف ندير الصراع ضده؟ بأي أدوات وبأي مفهوم وبأية هياكل وبأية خطة إستراتيجية؟
ولن تكفي في هذا المجال لا بيانات التنديد ولا شعارات الإدانة، كما لن تفيد احتفالات التفاخر بالفوز في الانتخابات، أو منتديات التشفي بصعوبة الوضع الناشئ أمام الحكومة المقبلة. الانتخابات انتهت وقد كانت ديمقراطية تماما، والكل قبل بنتائجها، والمهم الآن الإجابة على سؤال، ما العمل إزاء التحدي الكامن أمامنا؟
إن التغلب على المخطط الإسرائيلي يقتضي إستراتيجية تجمع بين الصمود الشعبي والكفاح الوطني واكتساب أوسع تأييد عالمي ودعم عربي ما أمكن. ولن يتحقق ذلك إلا بتشكيل قيادة وطنية موحدة والتوافق على استراتيجية وطنية مشتركة، دون التنازل عن تنفيذ مطلب الشعب الحازم باجتثاث كل جذور الفساد وسوء الإدارة وتحقيق الإصلاح الداخلي الشامل، وهي على كل حال شروط ضرورية للنجاح في إدارة الصراع.
وحتى لا نضيع في العموميات فان ذلك يعني، دخول القوى الثلاث التي ما زالت خارج منظمة التحرير، حماس والجهاد والمبادرة الوطنية فيها، وتفعيل قيادة وطنية موحدة ومشتركة عبر منظمة التحرير الفلسطينية إلى حين استكمال انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني بالأسلوب الديمقراطي.
وذلك يعني أيضا تشكيل حكومة ائتلاف وطني وتكاتف الجميع حول برنامج إجماع وطني مشترك عماده ثلاث نقاط:
أولا: الإصلاح الداخلي الشامل.
ثانيا: إسناد الصمود الوطني في وجه الضغوط الإسرائيلية والخارجية.
وثالثا: إدارة الصراع ضد المشروع الإسرائيلي وإفشاله، ويشمل ذلك الدعوة فورا لمؤتمر دولي للسلام يعيد القضية الفلسطينية إلى قاعدة القرارات والشرعية الدولية.
ومعنى ذلك رفض الضغوط التي تستهدف انتزاع مواقف فلسطينية دون مقابل ودون أي تغيير في الموقف الإسرائيلي، وكأن الهدف استمرار حالة الإملاء الإسرائيلي وأن يبقى الفلسطينيون يراوحون في موقع المتلقي لهذا الإملاء، ويصح في هذا المقام تكرار السؤال المشروع، للذين يطالبون بتجديد أو اعتماد اعتراف غير مشروط بإسرائيل: الاعتراف على أساس أي حدود؟ وهل يعني ذلك الاعتراف بضم القدس الشرقية وبالحدود التي ترسمها المستوطنات وجدار الفصل العنصري؟ ألا يجب أن يعني ذلك ضرورة إلزام إسرائيل بالمقابل بالاعتراف بالقرارات والشرعية الدولية بما في ذلك مثلا الاعتراف بإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وإزالة الاحتلال عن جميع الأراضي المحتلة دون استثناء وتنفيذ قرار لاهاي الدولي ضد جدار الفصل العنصري.
إن الرد على الضغوط يكون بواحد من ثلاثة أشكال: إما رفضها فقط وبالتالي تحقيق هدفها الرامي لعزل الشعب الفلسطيني، أو الرضوخ والتنازل لها وذلك يعني تضييع حقوق الشعب الفلسطيني والانضمام للمعسكر الفاشل بأن ليس بالإمكان أحسن مما كان، أو تقديم البديل القوي والمقنع والمؤثر، وذلك قد يضمن انتزاع زمام المبادرة من الآخرين، أي طرح الشروط الفلسطينية لعملية سلام حقيقية وليس مزيفة.
ومن هذا المنطلق تستمد فكرة المؤتمر الدولي قوتها وتأثيرها باعتبارها تلقي الكرة في ملعب الضاغطين، خاصة أن الدعوة للمؤتمر وردت حتى في خارطة الطريق التي يتغنى بها الإسرائيليون الآن بعد أن شيعوا جنازتها ودفنوها أكثر من مرة.
أما التحدي الثاني والملح، فهو كيف نضمن استمرار التواصل بين الضفة والقدس والقطاع في وجه الإجراءات الإسرائيلية، وذلك يقتضي الجمع بين الإبداع الفكري والمقاومة المثابرة لمحاولات المس بوحدة الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير والتي حققها الشعب الفلسطيني عبر تضحياته الغالية.
ويتمثل التحدي الثالث، في تكريس الديمقراطية بمضمونها الحقيقي، الذي جسدته ثورة الانتخابات الديمقراطية على مدار عام من كانون الثاني 2005 إلى كانون الثاني 2006، وحيث صوت الشعب لإنهاء نظام حكم الحزب الواحد لصالح التعددية السياسية. أي أن الشعب لم يصوت للانتقال من نظام حكم حزب واحد إلى نظام حكم حزب واحد آخر.
إن الأغلبية البرلمانية، بحكم الظروف والأحداث والنظام الانتخابي، تعطي لحركة حماس القدرة على إدارة الحكومة منفردة، غير أن الأغلبية الشعبية لا تطمح لذلك، فهي إذ صوتت بيد للتغيير الجارف وإذ كانت محقة في غضبها ونفاذ صبرها، فإنها حافظت باليد الأخرى على خضرة حلمها الدائم، بأن الفلسطينيين يستطيعوا أن يجدوا في خضم منافستهم الديمقراطية المشروعة والصحيحة جسرا للحفاظ على التعددية والتنوع.. وربما الوحدة الوطنية الراسخة.

• د. مصطفى البرغوثي: الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية
وعضو المجلس التشريعي.