بقلم / محسن أبو رمضان
كان قانون المنظمات الأهلية رقم 1/2000 نتاجاً طبيعياً لوصول العقل الجمعي الفلسطيني إلى صيغة متفاهم عليها قائمة على قاعدة استقلالية هذا العمل مع إعطاء الحق للسلطة مكونة من أحد وزاراتها بالقيام بإجراءات الرقابة ، حيث ساد قبل هذا التاريخ حالة من النقاش أدت إلى احتكاكات بالعديد من المحطات بين السلطة التنفيذية ونشطاء العمل الأهلي ، وذلك بخصوص دور تلك المنظمات وإذا كانت تلعب دوراً بديلاً أم تكاملياً ومصادر التمويل وإذا كانت على حساب أجهزة وهيئات السلطة أم أنها تأتي خصيصاً من قبل العديد من الجهات المانحة لصالح العمل الأهلي تحديداً .
ويعتبر مبدأ استقلالية العمل الأهلي أحد أهم المحاور الرئيسية باتجاه الايفاء بدور تلك المنظمات وذلك بصدد قدرتها ووظيفتها الرامية إلى تعزيز الفضاء الديمقراطي والحريات واحترام حقوق الإنسان والتأثير بالتشريعيات والقوانين لمناصرة مصالح الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشاً وفقراً في المجتمع ،لذلك تلجأ العديد من بلدان ما يسمى بالعالم الثالث إلى تجاوز تلك الاستقلالية ومحاولة إلحاق بنية العمل الأهلي والمدني برمته في مكونات الدولة ، حتى تفقدها قدرتها ووظيفتها ولاقناع العالم بأن هناك منظمات أهلية ومدنية في ظل موجة العولمة التى افرزت في إحدى معالمها دوراً مميزاً لمنظمات المجتمع المدني على المستويات القطرية والعابرة للقوميات أيضا .
والاستقلالية لا تعني هنا عدم التنسيق والشراكة والتكامل فيما يتعلق بخدمة مصالح الفقراء والوصول إلى المناطق النائية أو تقسيم المهمات في إطار خطة تنموية متكاملة تعزز الشراكة و تحدد الأدوار بما يزيد من المنفعة لصالح السواد الأعظم من الفقراء وفي سبيل مكافحة البطالة كما لا تعني عدم وجود آليات من الرقابة تعزيزاً للشفافية والنزاهة المطلوبة في كل لبنات وبنى المجتمع.
ومن المعروف أن حصة منظمات المجتمع المدني الفلسطيني من تمويل العديد من المنظمات والدول المانحة تراجعت بصورة ملحوظة بعد قيام السلطة الوطنية ، ويعود السبب في توجه بلدان ومنظمات العالم باتجاه تمكين وتقوية السلطة الوطنية بوصفها نواة للدولة المستقلة إلا أن التمويل استمر بدرجة أكبر من قبل منظمات المجتمع المدني العالمية لصالح منظمات المجتمع المدني الفلسطيني خاصة من مصادر منظمات التضامن الدولي المؤمنة بحقوق الشعب الفلسطيني وبضرورة ترسيخ دوراً مميزاً لصالح متطلبات المجتمع المدني فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وضمان الحريات وقيم ومعاني المواطنة الحرة والمتساوية .
ولقد لعبت منظمات العمل الأهلي دوراً بارزاً في إرساء القوانين والتشريعات وخاصة تلك التي لها علاقة مباشرة بأسس سيادة القانون وضغطت باتجاه اعتماد كل من القانون الأساسي وقانون استقلال القضاء، بالإضافة إلى كل من قوانين العمل، الضمان الاجتماعي، الأحوال الشخصية، أصحاب الاحتياجات الخاصة، الزراعة ....إلخ كما أنها تستمر بالضغط لاعتماد قانون الشباب والعديد من القوانين ذات العلاقة بمصالح الفئات الاجتماعية المهمشة والضعيفة في المجتمع .
من بين تلك القوانين التي ضغطت منظمات العمل الأهلي باتجاه إرسائها فقد كان قانون المنظمات الأهلية رقم 1/2000، والذي كان نتاجاً للوصول إلى فهم مشترك ما بين السلطة من جهة وما بين العمل الأهلي من جهة أخرى ، رغم التحفظات التي رفعها ممثلو العمل الأهلي في حينه على القانون خاصة فيما يتعلق بمرجعية التسجيل ، حيث كان من المفضل أن تكون وزارة العدل بدلاً من وزارة الداخلية بسبب قرب الأولى من المفاهيم القانونية والمدنية عن ما عداها من الوزارات ، رغم أن منظمات العمل الأهلي قد التزمت بالصيغة القانونية وفتحت أبوابها لرقابة وزارة الداخلية وكذلك لهيئة الرقابة العامة .
وكان يفترض أن يتم البناء على هذا القانون ، وذلك عبر اعتماد اللائحة التنفيذية والشروع في تنفيذها ، وهذا ما تم الاتفاق عليه ما بين مجلس الوزراء ولجنة الإصلاح المكونة من ممثل عن الحكومة إضافة إلى شخصيات من المجتمع المدني ، وذلك قبل ما يقارب من السنة من الآن ، ولذلك كانت مفاجئة نشطاء العمل الأهلي كبيرة بخصوص التعديلات المتقرحة وخاصة البند الذي يحظر النشاط السياسي لدى العاملين في مجال العمل الأهلي، فمن المعروف أن قضية شعبنا بأبعادها الاجتماعية والمدنية والوطنية مرتبطة إلى حد كبي بالبعد السياسي رغم إيماننا بضرورة التخصص من منطلقات مهنية، فهذا البند إذا ما تم اعتماده فإنه يحظر جميع الأنشطة ذات العلاقة بالهموم الوطنية والسياسية العامة مثل النشاط المطالب بالإفراج عن الأسرى ، أو المطالبة بحقوق اللاجئين ، أو الرافضة لجدار الفصل العنصري، أو المطالب بالحفاظ على عروبة القدس، حيث أن جميع الأنشطة المذكورة وغيرها الكثير تندرج في إطار العمل السياسي، الأمر الذي يثير حالة من الاستغراب تجاه هذا التعديل، كما أن التعديل الخاص بحظر النشاط الطوعي إلا ضمن المنظمات المسجلة فإنه ينطوي على استغراب أكبر، فمجتمعنا هو مجتمع تكافل وتضامن ومازالت قيمة العمل الطوعي تلعب دوراً بارزاً بالقضايا الوطنية والاجتماعية، وبدلاً من تشجيع المبادرات الرافضة للفلتان الأمني أو المطالبة باحترام سيادة القانون ، أو حقوق أياً من الفئات الاجتماعية الضعيفة أو اللجان القائمة على تقديم المساعدات الخيرية ........ إلخ نقول بدلاً من تشجيع تلك الظاهرة والتي تحافظ على وحدة نسيج المجتمع وتمنع تهتكه يلجأ معدي القانون الجديد بتعديلاتهم إلى تحذير القيام بالأنشطة الطوعية الأمر الذي يثير حالة من الاستغراب تجاه هذا التعديل ايضاً .
إنني أرى أن شطب تلك التعديلات يشكل ضرورة هامة في سياق ضرورة إعادة الثقة ما بين العمل الأهلي والسلطة وفي السياق البناء على ما تم الاتفاق عليه ،فحذر العمل السياسي في ظل غياب قانون أحزاب ينطوى على استغراب شديد أيضاً ، فالعمل الأهلي يؤثر بالسياسات العامة وبالتالي فهو يمس السياسة وتوجهاتها خاصة فيما يتعلق بالأبعاد التنموية والحقوقية والاجتماعية ، حيث أن العمل الأهلي يلعب دور الرقابة غير الرسمية على آداء وتوجهات الدولة في أي مجتمع من المجتمعات كما يؤثر بالرأي العام لصالح القيم والمفاهيم والمصالح التي يتبناها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة لصالح الفقراء.
إن الحديث الهلامي عن استخدام بعض رموز العمل الأهلي للمنظمات التي يرأسوها كمصادر لتمويل أنشطتهم السياسية ممكن التأكد منهم من خلال الرقابة المالية على أداء تلك المنظمات وأوجه الصرف والانفاق ومصادر التمويل، أما أن يصبح الحديث دون مرتكزات وآليات للرقابة فإنه يصبح أقرب إلى التشهير منه إلى الواقع، خاصة أن أي ناشط بالعمل الأهلي يميز ما بين هذا العمل وعمله السياسي ،في إطار الحرص على الشفافية والنزاهة .
وإذا كان مطلوباً الفرز ما بين العمل الأهلي والسياسي خاصة في محطات الدعاية الانتخابية ، فإنه مطلوباً كذلك الفرز ما بين العمل في مؤسسات السلطة واستخدامها لتمويل الحملة الانتخابية لمرشح حزبها الحاكم وذلك تعزيزاً للمعايير الموحدة والإنصاف والعدالة وترسيخاً لأسس الشفافية والنزاهة ، ولعل التقرير المالي الموثق من كل من الحالتين ضروري وهام ليس للمرشحين القادمين من العمل الأهلي ومن السلطة الوطنية بل من أجل الثقافة الديمقراطية وترسيخها .
ربما في سياق التحول الديمقراطي فإننا نتعلم الجديد خاصة بالثقافة الانتخابية على طريق تحقيق وعياً ديمقراطياً وانتخابياً ، ولكن الثابت بأن العلاقة ما بين العمل الأهلي والسلطة الوطنية يجب أن تتعزز على قاعدة الشراكة والتكامل في إطار المرتكز الأساسي المبني على مبدأ استقلالية العمل الأهلي والحفاظ على دورة الفاعل وعدم القيام بإجراء تعديلات بالقانون تنطوي على آراء مسبقة دون فحصها على الأرض ، بل المطلوب يتجسد بالقيام بالبناء على القانون عبر تنفيذ اللائحة التنفيذية، كما جاء في توصيه لجنة الإصلاح وبالاتفاق مع مجلس الوزراء.
ومن المعروف أن القوانين والتشريعات تأتي لتنظيم العلاقة على أسس من المفاهيم المشتركة ، وإذا كانت إرادة المجتمع الفلسطيني تتجه إلى إرساء أسس المجتمع المدني فإننا بحاجة إلى جميع القوانين الرامية إلى تعزيز الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سياق السعي لبناء دولة القانون وقيم المواطنة، وليس إلى قوانين أو تعديلات تعمل على النكوص على تلك التوجهات وتربك بالتالي الإرادة الجمعية في مجتمع يسير باتجاه تحقيق الديمقراطية والتقوية كمدخل صحي ورئيسي لتحقيق أهدافه الوطنية .