خطت فلسطين من خلال الانتخابات الرئاسية، وما سبقها وسيتبعها من انتخابات محلية وتشريعية خطوة مهمة وواسعة نحو بناء نظام ديمقراطي، وانفتح أفق واسع لتكريس ما يمكن تسميته السابقة الديمقراطية الأولى في المنطقة.
وبتسارع وتيرة الانتخابات المحلية ومن ثم التشريعية، يبدو ان هذا الانجاز تحول لا رجعة عنه نحو بناء نظام ديمقراطي، وحيث انه لا يمكن تعايش نظام حكم الحزب الواحد او العائلة الواحدة مع الديمقراطية، فان الحديث يدور عن القبول بمبدأ (تداول السلطة) بالطرق السلمية. ورغم العبث غير المبرر والضغوطات التي مارستها السلطة وأجهزتها على لجنة الانتخابات المركزية مما أدى لخرق القانون في الساعات الثلاث الاخيرة، فيما بدا انه نكسة في السلوك والاداء نحو الماضي، فان العملية الديمقراطية بقيت على درجة عالية من السلامة، وتعزز ذلك لاحقاً في الانتخابات البلدية التالية.
ويبدو واضحاً، من خلال دراسة تجربة انتخابات الرئاسة بما في ذلك الخروقات والتدخلات والاستمرار في استخدام أجهزة السلطة لصالح مرشح معين، اننا نتحدث عن عملية تطور نحو النظام الديمقراطي وليس عن فعل نهائي لمرة واحدة، والنتيجة المؤكدة ان مبدأ التعددية السياسية قد تكرس، ومبدأ المنافسة الديمقراطية أصبح واقعاً، وان الشرعية القيادية لا يمكن ان تكتسب في فلسطين بعد اليوم الا عبر الانتخابات الديمقراطية. أما الاستنتاج الثاني، فهو ان نظرية استقطاب المجتمع الفلسطيني بين حركتي حماس وفتح، لم تكن يوماً وليست الآن صحيحة. لقد جرى الترويج في الغرب والاعلام الاسرائيلي طويلاً لهذه النظرية، غير ان الانتخابات الرئاسية اثبتت وجود تيار ثالث ديمقراطي قوي ومؤثر ولولا ذلك لما استطاع مرشحه الحصول على ما لا يقل عن ۲۲ بالمائة من الأصوات لصالحه رسمياً وما يصل الى ۳۰ بالمائة من الأصوات، اذا ما حذفنا الآثار الناجمة عن خرق القانون والتصويت المتكرر الذي جرى في الساعات الثلاث الأخيرة، وتبعثر جزء من الأصوات، بين عدد من المرشحين.
بل ان استطلاعات الرأي تشير منذ سنوات عدة الى وجود أغلبية كانت صامتة لا تقل عن ۴۰ بالمائة - ۴۵ بالمائة من الناس، ممن ليسوا جزءاً من الاستقطاب بين فتح وحماس، وقد استفادت حركة حماس من عدم وجود تيار معارضة ديمقراطي واضح المعالم وحصدت معظم أصوات المعارضة في كثير من المناسبات، على قاعدة الميل الشعبي العام ضد الفساد وسوء الادارة واخطاء السلطة الفلسطينية.
اما الاستنتاج الرابع، فيتعلق بتبدد الوهم الذي يجري الترويج له بأن الاصلاح الشامل والدمقرطة ستحدث من داخل السلطة نفسها، ومن داخل الحزب الحاكم، أو ان بعض القوى الصغيرة تستطيع ان تركب قاربين في نفس اللحظة، بان تكون مشاركة في الحكم القائم ومبحرة في قارب المعارضة الديمقراطية في ان واحد.
وسنحاول فيما يلي استعراض أهم هذه العقبات، التي تمثل إزالتها شروطاً لبناء نظام ديمقراطي.
أولا: إنهاء الاحتلال:
ان استمرار الاحتلال الاسرائيلي وما يرافقه من تقطيع لاوصال الاراضي الفلسطينية كان وما زال العقبة الرئيسية في بناء نظام ديمقراطي كامل، واذا كان الاحتلال عائقاً للممارسة الديمقراطية فان واجبنا افشال تحوله الى مانع لهذه الممارسة. وذلك مغزى النهج الذي اعتبر الانتخابات الديمقراطية وسيلة مقاومة كفاحية سلمية.
ولذلك كان تحدي اجراءات الاحتلال والوصول للقدس والاصرار على اشراكها في الانتخابات أمراً حتمياً، ومن البديهي ان الديمقراطية لن تكتمل ما لم يتم إنهاء الاحتلال، وتجربة الانتخابات الرئاسية وما رافقها من اعتداءات واعاقات واعتقالات وتمييز بين المرشحين هي مجرد دليل على ذلك.
ثانيا: فصل الحزب الحاكم عن جهاز السلطة والدولة المنشودة:
اقرار قانون للاحزاب السياسية بما في ذلك قانون لتمويل الاحزاب، اذ تقتضي الديمقراطية الحقيقية تكافؤ فرص الاحزاب والقوى السياسية كافة في خوض الانتخابات. ويحرم القانون على أي مرشح او حزب استغلال اجهزة السلطة لصالحه، ومن المعروف ان حركة فتح - بحكم دورها التاريخي قد تصرفت كحزب حاكم ومسيطر تماما على منظمة التحرير وبعد ذلك على السلطة الفلسطينية على مدار حوالي اربعين عاماً.
واذ يسجل لفتح رفضها مصير جبهة التحرير الجزائرية وقبولها الاحتكام للانتخابات الديمقراطية، فان مصلحتها ان ارادت الحفاظ على قدرتها التنافسية، وشروط النظام الديمقراطي تقتضي انفصالها عن جهاز السلطة المدني والامني.
ولهذا الانفصال ثلاثة أبعاد:
أ: الفصل الذهني: أي القبول من حيث المبدأ باحتمال فوز حزب او حركة منافسة بالانتخابات وبالتالي تسلمها لموقع القيادة. وهذا يعني التخلي عن فكرة ان السلطة والثورة والدولة هي ميراث لحزب او قائد مهما علا شأنه، ان وضع شروط واضحة للعلاقة بين الحزب الفائز والسلطة امر في مصلحة الجميع بما في ذلك فتح، اذا ارادت ان تعود لاستلام مقاليد السلطة في حال فقدانها ومن خلال الانتخابات الديمقراطية نفسها.
ب: الفصل البيروقراطي: وهو فصل يطالب به العديد من قادة حركة فتح وخاصة من الاجيال الشابة الذين يجدون أنفسهم مطالبين بتحمل مسؤولية ما وقع من فساد وسوء ادارة وأداء في اجهزة السلطة، وان كان يصعب على الكثير منهم تصور امكانية التخلي عن عادات الاستفادة من امتيازات السلطة واحتكارها. وليس من السهل الاستخفاف بصعوبة تحقيق هذا الفصل الذي يعني الاعتماد على الحزب وصلته بالجماهير وتمثيله لمصالحها، دون الاتكال على اجهزة السلطة وموظفيها واجهزتها الامنية ومواردها المالية. ويكفي ان نذكر في هذا المجال ان موظفي الاجهزة الأمنية وغالبيتهم الساحقة من فتح يصل عددهم الى ۰۰۰ر۵۸ شخص من بين ۰۰۰ر۱۳۳ أي ما يعادل ۴۴ بالمائة من مجموع موظفي الدولة الذين يكلفون خزينتها ۹۳۸ مليون دولار سنويا.
وقد يبدو الامر للبعض ضريبة قاسية، ولكن قسوتها تهون عند مقارنة ذلك بما يقود له استمرار الوضع القائم من انهيار جارف كانت انتخابات بلديات غزة العشرة مجرد مؤشر له.
ج: الفصل المالي: أي منع استخدام او احتكار مقدرات السلطة ودخلها المالي من ضرائب المواطنين، والرسوم التي يدفعونها لصالح حزب او مجموعة فصائل. وللانصاف لا بد من القول ان الاستفادة المالية تمتد لتشمل عددا من الفصائل، لا يتجاوز حجم بعضها اعشار بالمائة من التأييد الشعبي.
وقد حلت الانظمة الديموقراطية هذه المعضلة بتحديد تمويل مالي للاحزاب من موازنة الدولة يتناسب طردياً مع النسب التي تحققها في الانتخابات العامة. وهكذا فان المواطن يقرر بنفسه من خلال تصويته ليس فقط حجم التأييد الذي يمنحه لكل حزب، بل وايضا حجم التمويل الذي يناله هذا الحزب من الاموال التي يقدمها المواطن نفسه كدافع للضرائب. ويساعد على ذلك تحديد قانون الانتخابات الجديد لسقف أعلى للصرف المالي على الحملات الانتخابية.
ثالثاً: فصل القضاء عن السلطة التنفيذية وانشاء نظام قضاء مستقل: ولا يحتاج هذا الامر، كما اظن لشرح او تفصيل، فما من قضية كتب فيها، وبحث في ابعادها، وجرى انفاق الملايين في التدريب على انشائها مثل قضية انشاء نظام قضاء مستقل، ومع ذلك لا توجد حتى الان اية خطوات ملموسة في هذا الاتجاه. وبدون قضاء مستقل، لا توجد سيادة للقانون، ولا مساواة امام القانون. بل لا توجد مرجعية للنظام السياسي والعلاقات المجتمعية بكاملها.
رابعاً: اصلاح شامل للأجهزة الأمنية:
والاصلاح المقصود هنا، هو ذلك النابع من الدوافع والمصالح الفلسطينية وليس ما تحاول فرضه بعض الضغوط الخارجية، وخاصة الاسرائيلية، ان اصلاح الاجهزة الامنية يعني، بالاضافة الى انهاء التعددية في مرجعياتها وتخفيض عددها وعدد العاملين فيها.
أ: خضوعها لسيادة القانون والسلطات المنتخبة.
ب: خضوعها للمساءلة من قبل المجلس التشريعي المنتخب.
ج: ان هذه الاجهزة تعمل في خدمة الشعب بأسره وذلك يعني انهاء تسييسها او تحزبها لفصيل معين، وامتناع قادتها عن القيام باية نشاطات سياسية او اعلامية.
د: عدم تدخلها او ممارستها لانشطة اقتصادية او احتكارية.
ه: ان يجري تغيير دوري في فترات محددة سلفاً لقادتها ضمن نظام محدد قانونياً.
و: منع تدخل الاجهزة الامنية في الانتخابات او مشاركتها في الدعاية الانتخابية او محاولة التأثير في نتائجها.
خامسا: انعاش منظمة التحرير الفلسطينية عبر الاصلاح الديمقراطي:
من المتعارف عليه ان منظمة التحرير تمثل مرجعية للسلطة الفلسطينية، والطرف الرسمي المفاوض باسم الفلسطينيين. ان ذلك لا يتفق في الواقع مع حالة التهميش التي تعيشها اجهزتها، التي تحولت الى بند صرف على موازنة السلطة الفلسطينية، كما انه لا ينسجم مع حقيقة غياب الانتخابات الديمقراطية لهيئاتها، وعدم انعقاد مجلسها الوطني منذ عام .۱۹۹۸
ان توفر النية الصادقة لاشراك فلسطينيي الشتات في انتخابات المجلس الوطني ومن ثم ايجاد الآليات المناسبة لتحقيق ذلك، سيضمن وقف تجزئة القضية الفلسطينية وردم الهوة التي نشأت بين الداخل والخارج بعد أوسلو، وسيغلق الطريق على محاولات تصفية قضية اللاجئين، او تحويل فكرة الدولة الى حكم ذاتي منزوع السيادة. بل لعل هذه الانتخابات تساعد على بلورة آلية ديمقراطية لقيادة واستراتيجية ورؤية فلسطينية موحدة، نحن في اشد الحاجة لها في هذه الظروف الصعبة.
سادساً: التحول من نظام الزبائنية والتعصب الفصائلي الى تمثيل مصالح الناس:
ان تطور النظام الديمقراطي الفلسطيني يرتبط كذلك بالانتقال من نظام التبعية الزبائنية للأحزاب السياسية، حيث يقوم كل حزب وفصيل بالاعتناء اساساً بمصالح اعضائه وتوفير الامتيازات لهم من بعثات ووظائف ومساعدات وخدمات اجتماعية فيما يعمق التعصب التنظيمي والفصائلي.
ويضيع حقوق الاغلبية الساحقة من ابناء الشعب، الى نظام تجتهد فيه كل قوة سياسية لتمثيل مصالح فئات اجتماعية معينة ومناصرة سياسات تحقق تطلعاتها، وتستمد بالتالي مكانتها من خلال اقناع الناخبين بالتصويت لها، مما يجعلها بالتالي مساءلة امام الناخبين عن تنفيذ السياسات التي وعدت بها. وهذا يعني تكريس وضع قانوني وعملي تصبح فيه اجهزة الدولة - السلطة - والجمعيات والمؤسسات والبلديات في خدمة مصالح الناس دون تمييز بينهم على اساس فئوي او فصائلي. ويشكل هذا التطور الاساس المتين لالغاء ما يجمع معظم الناس، حسب استطلاعات رأي حديثة، على اعتباره الشكل الابرز للفساد وهو المحسوبية. المحسوبية في التوظيف والمحسوبية في الترفيع والمحسوبية في تلقي الخدمات والمحسوبية حتى في الحصول على المنح الدراسية. وسيعني ذلك وضع قيود على ممارسات بغيضة تجلت في بعض الانتخابات الطلابية الاخيرة بتقديم منح مالية لاقناع الطلبة بالتصويت لاطراف معينة.
سابعاً: دورية الانتخابات التشريعية والرئاسية:
وهي انتخابات يجب ان تجري في مواعيدها مهما كانت الظروف. وقد كشفت الاحداث زيف الذرائع التي استخدمت سابقاً لتعطيل وتأجيل الانتخابات، ومن ضمنها الواقع السياسي. فلم تكن هناك ظروف اصعب واسوأ من تلك التي سادت خلال اجراء الانتخابات الرئاسية ومع ذلك فقد تمت بنجاح معقول.
ان معرفة الاحزاب والقوى السياسية والاجتماعية مسبقاً بان المنتخبين سيخدموا لفترة معينة لا تتجاوز ۴-۵ سنوات، سيكون من اهم العوامل التي تثبت مبدأ المساءلة والعناية بالمواطن والاهتمام برأيه والتواصل معه.
ثامناً: اجراء الانتخابات الدورية:
يحق لكافة المؤسسات وخاصة النقابات العمالية والمهنية والغرف التجارية اذ لا يعقل ان تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية وفي صفوف الجمعيات الاهلية والبلديات، في حين تبقى النقابات العمالية بمعزل عن هذه العملية. ومن حق وواجب المعلمين والعمال ان يطالبوا ويعملوا على اجراء هذه الانتخابات.
تاسعاً: حيادية الاعلام:
لعل الاعلام الرسمي كان ابرز الفاشلين في الانتخابات الرئاسية، فقد اشار تقرير المراقبين الاوروبيين الدوليين الى ان التلفزيون الرسمي الفلسطيني قد منح ۹۳ بالمائة من تغطيته خلال فترة الانتخابات لمرشح حركة فتح، وتراوح ما حصل عليه باقي المرشحين ما بين واحد الى ثلاثة بالمئة من التغطية، وتبين، رغم محاولات مراسلين شجعان عديدين، ان الاعلام الفضائي العربي ليس حياديا ولا مستقلاً، وانه ايضا محكوم بمواقف سياسية واحكام وتدخلات مسبقة. ويشكل الانحياز الاعلامي ابرز نقاط الضعف في النظام الانتخابي الفلسطيني، ولا بد من وسيلة لمعالجة ذلك قبل حلول موعد الانتخابات التشريعية التي ستشهد منافسة اكثر شدة وحدة مما سبقها.
عاشراً: سلامة القوانين الانتخابية والاستقلالية الكاملة للجنةالانتخابات المركزية:
ويشمل ذلك القبول بمبدأ التمثيل النسبي بما يساعد على تطوير الحياة السياسية الديمقراطية، وبنسبة لا تقل عن نصف عدد اعضاء المجلس التشريعي، بالاضافة الى ضمان تمثيل حقيقي وفعال للمرأة الفلسطينية، بنسبة لا تقل عن عشرين بالمائة لكافة المقاعد وليس ثلثها فقط كما تقترح القراءة الثانية التي اقرها المجلس التشريعي، وفتح الباب لمشاركة اوسع للشباب الفلسطيني، بالاضافة الى اجراءات مثل الغاء السجل المدني الذي سبب فرضه على لجنة الانتخابات المركزية بلبلة واسعة، وادى الى حدوث تجاوزات وصلت حد التصويت المتكرر وتشويه العملية الانتخابية خلال انتخابات الرئاسة.