د. مصطفى البرغوثي: الجيل الجديد من المنظمات الأهلية مطواع لشروط المانحين

د. مصطفى البرغوثي
عضو المجلس التشريعي
رئيس مجلس إدارة اتحاد لجان الإغاثة الطبية الفلسطينية:

الجيل الجديد من المنظمات الأهلية مطواع لشروط المانحين

التاريخ: الخميس 3 آب 2006
المكان: مكتب د. البرغوثي
الساعة: 11:00-12:00

سؤال: هل برأيك تؤشر نتائج استطلاع أمان حول الفساد إلى أن الجمهور الفلسطيني أخذ يفقد الثقة في مؤسساته عامة، ومن صمنها المنظمات الأهلية؟ وأين اخفق العمل الأهلي الفلسطيني حتى تتكون عنه مثل هذه الانطباعات عند الجمهور الفلسطيني؟

لا أعتقد أن الجمور الفلسطيني فقد الثقة بالمنظمات الأهلية. المشكلة هنا في التعميم. لا يجوز التعميم؛ فالمؤسسات الأهلية الفلسطينية ليست شيئا واحدا. من الإجحاف وضعها جميعا في سلة واحدة. واعتقد أن الناس قادرون على التمييز بين مؤسسة وأخرى. في العام 2002، وفي استطلاع للجمهور نفذه برنامج دراسات التنمية في جامعة بيرزيت حول أداء المؤسسات الأهلية حازت مؤسسات مثل الهلال الأحمر الفلسطيني والإغاثة الطبية على ثقة عالية من الجمهور.

يزعجني جدا التطور السلبي في انطباع الجمهور عن المنظمات الأهلية الفلسطينية والذي اعزوه إلى التكاثر الكبير في عدد المنظمات الأهلية الفلسطينية؛ هناك مئات من المنظمات الجديدة التي نشأت إما كرد فعل على توافر التمويل، أو لأغراض المصلحة الشخصية. هناك مشاكل في المنظمات الأهلية تساهم في خلق انطباعات سلبية عند الجمهور، منها:
- غياب نظم شفافة للمساءلة والمحاسبة، لأن عددا منها نشأ لدوافع تمويلية بحتة
- عدم وجود فصل للصلاحيات بين المؤسسات وهيئاتها المرجعية
- أنها لا تعمل آخذة بعين الاعتبار أولويات واحتياجات المجتمع الفلسطيني.

المشكلة تكمن في تكاثر العدد وفي التطفل. هذا ترافق مع قدوم العديد من المؤسسات الأجنبية والأطراف التمويلية إلى فلسطين بعد توقيع اتفاق أوسلو، الأمر الذي أفضى إلى سهولة العمل الأهلي في فلسطين بسبب تخفيف حدة الاحتكاك مع الاحتلال الإسرائيلي. هذه المؤسسات بعد قدومها اختارت ألا تعمل من خلال مؤسسات فلسطينية، بل أخذت تعمل مباشرة، الأمر الذي اضعف قدرة المؤسسات الفلسطينية على التحكم بأجندة الممولين. 
الممولون الخارجيون، عن قصد أو غير قصد، وأنا لا أستبعد القصد، يريدون منظمات طيعة لشروطهم. يجب أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار عند القيام باستطلاع. ثمة فرق بين منظمات ومنظمات. وهنا لابد من الإشارة إلى الجهد الكبير الذي بذله المجتمع الأهلي في مقاومة وثيقة الإرهاب الأمريكية التي حاولت وكالة التنمية الأمريكية فرضها على المؤسسات الفلسطينية.  فلسطين كانت المكان الوحيد في العالم الذي اجبر وكالة التنمية الأمريكية على تغيير شروط الوثيقة والتي رفضت في النهاية لأنها لم تلب مطالب المجتمع الأهلي الفلسطيني.

سؤال: أنت تقول لنا أن هناك أجيالا من المنظمات الأهلية، وأن الأجيال الجديدة منها أكثر طواعية في مواجهة شروط الممولين؟
ج: نعم. هناك عدة أجيال من المنظمات الأهلية.

1- جيل المنظمات الخيرية. ففي الأربعينات والخمسينات كان هناك الجمعيات الخيرية التي لعبت دورا مهما على المستويين الاجتماعي والوطني، والتي عانت من تحجيم الاحتلال لدورها.
2- الجيل الذي نشأ عقب الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. هذا الجيل انطلق متمردا على مكونا منظمات جديدة بدأت تعمل في مجالات عديدة مثل الصحة، التعليم، الزراعة، وتميزت بأنها مؤسسات مستقلة، تطوعية، وتتحدى الاحتلال، ساعية إلى صياغة سياسات مستقلة عنه وعن مؤسساته. اعتمدت هذه المؤسسات على تمويل من مؤسسات أهلية غير حكومية مثل نوفيب واوكسفام وغيرها. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى الدور الهام الذي لعبته مؤسسة التعاون في دعم هذه المؤسسات.
3- الجيل الذي نشأ وتكاثر في سنوات التسعينات، بعد نشوء السلطة. هذا الجيل الذي بحث عن التمويل من أجل التمويل، هو الأكثر طواعية لشروط المانحين.

وعلينا ألا نغفل الانتقال العالمي الذي حدث بعد الانتصار العام للرأسمالية، إن جاز التعبير، والذي سمح لقطاع الأعمال بفرض أنظمة إدارته على المؤسسات غير الحكومية. العولمة والمنظومة الاقتصادية العالمية الدية سهلت للتمويل الحكومي فرض شروطه على المنظمات غير الحكومية من خلال التركيز على أنماط إدارة وعلى المُنتج والمهننة، وليس على العامل الاجتماعي، وأصبحت المؤسسات تتجه نحو المشاريع دون تخطيط استراتيجي ضمن رؤية تنموية تحكم عملها، الأمر الذي يقضي على فلسفة التنمية برأيي.

سؤال: إذن، فنحن عالقون في شباك التمويل وأجندته وبرامجه! فما العمل لمجابهة هذا الوضع؟

ج: مواجهة هذا الوضع تحتاج إلى جهد جماعي حقيقي. استذكر هنا تجربة شبكة المنظمات الأهلية عندما وجدت نفسها في مواجهة خطر حقيقي من السلطة الفلسطينية، في حينه وحدة المصالح تطلبت وحدة العمل الأهلي في مواجهة هذا الخطر. لكن هذه الوحدة لم تستمر للأسف بسبب التنافس على التمويل الذي أعتبره ألد أعداء وحدة العمل الأهلي. لم ننجح مع الممولين كما نجحنا مع السلطة لأن المصالح مختلفة الآن.

سؤال: هل تم استخدام التمويل الخارجي برأيك لمحاربة السلطة الفلسطينية في سنوات الانتفاضة الثانية، أي أنه جرى تقليص دعم السلطة لصالح دعم المنظمات الأهلية، كنوع من العقاب للسلطة، ورغبة في إضعافها؟

ج: لا اعتقد بصحة هذا الكلام. التمويل المخصص للمنظمات الأهلية تقلص من 220 مليون دولار سنويا إلى 60 مليون فقط بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية. والازدياد في حصة المنظمات الأهلية مؤخرا مرده إلى زيادة التمويل العام. مثلا بريطانيا في عام 2003 قررت وقف تمويلها لقطاعي الصحة والتمويل لتوجيهه إلى الأمن. وهناك ممولون آخرون إضافة كانوا بصدد نفس الإجراء.

سؤال: يبدو أننا نغرق في مستنقع التمويل الخارجي. هذا الغرق أصيح يشكل خطرا على الإرادة الوطنية، وعلى الخيارات الوطنية. وتجربة الانتخابات التشريعية تثبت ذلك. فقد توقف التمويل في اللحظة الذي لم يعجبه قرار الشعب الفلسطيني.
 
ج: التمويل الخارجي يسعى إلى تحويلنا جميعا إلى لاجئين يعيشون على برامج الطوارئ والمساعدات الإنسانية والاغاثات الطارئة، متحولا هو إلى وكالة غوث. معظم التمويل يوجه حاليا إلى وكالات الأمم المتحدة (الانروا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي). وهذه الوكالات لا تتقاضى فقط  13-11% بدل مصاريف إدارية، وهذا بحد ذاته عبئ كبير علينا، بل وتقرر هي السياسات حسبما ترتئي.
في نفس الوقت السلطة الفلسطينية نفسها تحولت إلى وكالة غوث تشغل حوالي 162 ألف موظف، 82 ألف منهم في الأجهزة الأمنية يستهلكون 30% من موازنة السلطة. وزادت حركة حماس أربعة آلاف موظف جديد. هذا قاتل وغير ممكن.، ولا يؤدي إلى أي طريق تنموي بالمطلق.

سؤال: هل هناك من مخرج؟

ج: المخرج واحد، وهو صياغة سياسة تنموية فلسطينية تتشارك فيها القطاعات المختلفة ويضمنها الخاص والأهلي، والعمل الجدي على خلق مشاريع تنموية حقيقية. أعطي مثالا بسيطا لمشروع تم تنفيذه في 25 قرية في محافظة جنين استهدف النساء الأكثر فقرا.  تم تدريب النساء على أعمال الخياطة وفي نهاية المشروع تم تزوديهن بماكينات خياطة للعمل عليها. استفادت من المشروع 548 امرأة. هنا خلقنا فرص عمل لهؤلاء النسوة ضمن توجه تنموي يوفر لهن إمكانية إسناد العائلة والمساهمة في خلق اقتصاد منتج.
أيضا بالنسبة لمصنع الألبان في منطقة رام الله. فبعد أن اكتشفنا انه يتم شراء الحليب من إسرائيل، قمنا بالترتيب مع مربي أبقار ليقوموا بتزويد المصنع بالحليب ضمن شروط ومواصفات سليمة.  هكذا حققنا أكثر من هدف: ساهمنا في تغذية اقتصاد العائلة، كسرنا الاعتمادية على المنتج الإسرائيلي، ووفرنا دخل للعديدين. المستقبل يعتمد على بناء نموذج إنتاجي سليم. علينا التنبه إلى أن أغلبية الشعب الفلسطيني هم من الشباب المتعلمين.  يجب أن نسعى إلى توفير فرص عمل لهؤلاء الشباب في عمل إنتاجي حقيقي، ويمكن إشراك على رأس المال الفلسطيني في الخارج والاعتماد عليه.
وبالنسبة للمنظمات الأهلية، فان تحررها من التمويل هو مسألة مهمة. لكن هذا أكثر ما يزعج الممولين. وهذا ما يفسر انزعاج الممولين من فكرة (الوقفيات) التي تسعى المؤسسات إلى بنائها وهذه خطوة على طريق تحقيق نوع من الاستقلالية المالية.
 التمويل هو استعمار من نوع آخر. هذا ما يجب قوله.

سؤال: هناك من يقول بأن مهنية المنظمات تتناقض مع الشرعية والمساءلة؟

ج: مهنية المؤسسات والتزامها بالإجراءات السليمة، وبالتحديد الإجراءات المالية والإدارية السليمة. الإغاثة الطبية مثال جيد على هذا التوافق: مهنية عالية ونظام محاسبة شفاف وجيد. كما أنه ليس من الضروري أن تتناقض المهنية البعد السياسي في عمل المنظمات الأهلية. التاقض حاصل بين بعض المنظمات وبين قوى سياسية على علاقة بها. وهذا يظهر كما لو أنه صراع بين المهنية والشرعية، أو بين المهنية والسياسة. يجب أن تبتعد المؤسسات عن المصالح الفئوية الحزبية الضيقة في عملها.

سؤال: الكثير من داخل العمل الأهلي وخارجه يتحدثون عن أدوار معطلة أو ضعيفة للهيئات المرجعية للمؤسسات، ويعزون هذا بالتحديد إلى طريقة تشكيل هذه الهيئات المرجعية سواء من قبل المدير أو متنفذون في هذه الهيئات؟  ماذا ترى في ذلك؟

ج: هناك ضعف في أدوار الهيئات المرجعية. ويعود هذا إلى طريقة تشكيلها. لكن لدينا تطرفان بخصوص هذه المسألة. تطرف يقول بفتح الهيئات العامة أمام الجميع. وهذا غير منطقي، ويتناقض مع مبدأ الديمقراطية ويتنافى مع حق الناس، أو حق مجموعة معينة، في التجمع من أجل الدفاع عن قضية معينة، ليس من الضروري أن يكون عليها إجماع، وهذا يقضي على التعددية. في المقابل، هناك تطرف آخر يقضي بوجود هيئات عامة ضيقة ومحصورة وغير فاعلة.  يجب أن نبحث عن نقطة توازن بين هذين التطرفين.
تفعيل دور الهيئات المرجعية يقتضي فصلا واضحا في السلطات ووجود سياسات واضحة بخصوص تضارب المصالح. هذا سيعزز من مساءلة الهيئات المختلفة لبعضها وبالتالي سيعزز سلامة العمل في المؤسسات. ومن الضروري الإشارة إلى أهمية وجود لجنة إدارة داخل المؤسسة تضم المدير العام ومدراء الأقسام تتخذ القرارات، وهذا ليس لإضعاف المدراء العامين، بل لتعزيز المشاركة في عملية صنع القرار داخل المؤسسات.

ملحق النزاهة، الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة، مشروع تعزيز الشفافية والمساءلة في العمل الاهلي،