في أوائل أيار (مايو)، بينما كان كولن باول يقوم بزيارته إلى إسرائيل والأراضي المحتلة، اجتمع مع محمود عباس، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، وبشكل منفصل مع مجموعة من نشطاء المجتمع المدني، من ضمنهم حنان عشراوي ومصطفى البرغوثي. وحسب البرغوثي فإن باول عبّر عن دهشته وامتعاضه إلى حد ما من الخرائط المعدة بالكومبيوتر للمستوطنات والجدار الذي يبلغ ارتفاعه 8 أمتار، والعشرات من نقاط التفتيش التابعة للجيش الإسرائيلي التي تجعل الحياة بالغة الصعوبة والمستقبل قاتماً للغاية بالنسبة إلى الفلسطينيين. تبدو رؤية باول للواقع الفلسطيني، في أحسن الأحوال، ناقصة على رغم موقعه المهيب، لكنه طلب بالفعل تزويده وثائق ليأخذها معه، والأهم من ذلك انه طمأن الفلسطينيين إلى أن جهداً يماثل ما بذله بوش على صعيد العراق سيكرّس الآن لتطبيق خريطة الطريق. وجرى تأكيد النقطة ذاتها في الأيام الأخيرة من أيار (مايو) من جانب بوش ذاته في سياق مقابلات أجرتها معه وسائل الإعلام العربية، ولو أنه أكد كعادته على عموميات بدلاً من أي شيء محدد. واجتمع بوش مع القادة الفلسطينيين والإسرائيليين في الأردن، وقبل ذلك مع ابرز الزعماء العرب، باستثناء الرئيس السوري بشار الأسد، بالطبع. هذا كله هو جزء مما يبدو الآن أشبه باندفاعة أميركية كبيرة إلى أمام. وكون ارييل شارون قبل خريطة الطريق (مع تحفظات تكفي لنسف موافقته) يبدو نذيراً لدولة فلسطينية لا تملك مقومات البقاء.
يُفترض أن تتحقق رؤية بوش (لهذه الكلمة نبرة حالمة غريبة في ما يفترض أن يكون خطة سلام عملية ومحددة بوضوح وذات مراحل ثلاث) عبر سلطة يعاد هيكلتها، وإزالة كل أشكال العنف والتحريض ضد الإسرائيليين، وتنصيب حكومة تلبي احتياجات إسرائيل والرباعية (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) التي أعدت الخطة. وتتعهد إسرائيل من جانبها بتحسين الوضع الإنساني، وتخفيف القيود ورفع حظر التجول، على رغم عدم وجود تحديد للمكان والزمان. وبحلول حزيران (يونيو) 2003، يفترض أن تتضمن المرحلة الأولى أيضا تفكيك نقاط الاستيطان غير الشرعية التي أقيمت منذ آذار (مارس) 2001، على رغم أن لا شيء يذكر عن إزالة بقية المستوطنات، التي تضم 200 ألف مستوطن على الضفة الغربية وغزة، ناهيك عن الـ200 ألف مستوطن إضافي في القدس الشرقية المحتلة. المرحلة الثانية، التي توصف بأنها مرحلة انتقالية تمتد من حزيران (يونيو) إلى كانون الأول (ديسمبر) 2003، ستركز الاهتمام، على نحو غريب نوعاً ما، على خيار إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود مؤقتة ورموز سيادية - من دون تحديد أي شيء من ذلك - لتتوّج بمؤتمر دولي يصادق ثم ينشىء دولة فلسطينية، تكون مرة أخرى ذات حدود مؤقتة. المرحلة الثالثة يفترض أن تنهي النزاع كلياً، أيضا عبر مؤتمر دولي ستكون مهمته تسوية القضايا الأكثر تعقيداً: اللاجئين، المستوطنات، القدس، الحدود. ودور إسرائيل في هذا كله هو أن تتعاون، فيما يُلقى العبء الفعلي على الفلسطينيين، الذين يتعيّن عليهم أن يواصلوا تنفيذ التزاماتهم بتعاقب سريع، بينما يبقى الاحتلال العسكري في مكانه تقريباً، على رغم تخفيفه في المناطق الرئيسية التي تعرضت إلى الغزو خلال ربيع 2002. ولا تتضمن الخطة أي عنصر مراقبة، ويترك التماثل المضلل لهيكليتها لإسرائيل إلى حد كبير السيطرة على ما سيحدث. أما بالنسبة إلى حقوق الإنسان للفلسطينيين، التي تعاني حالياً القمع أكثر من التجاهل، فإن الخطة لا تحتوي على أي معالجة محددة: يعود إلى إسرائيل، كما يبدو، استمرار الوضع مثل السابق أم لا.
للمرة الأولى، كما يقول جميع المعلقين المعتادين، يعرض بوش أملاً حقيقياً لتسوية في الشرق الأوسط. ولمحت تسريبات محسوبة من البيت الأبيض إلى لائحة عقوبات محتملة ضد إسرائيل إذا بالغ شارون في تعنته، لكن ذلك نُفي بسرعة ثم اختفى. وهناك إجماع متزايد في وسائل الإعلام تُعرض بموجبه محتويات الوثيقة - الكثير منها مأخوذ من خطط سلام سابقة - باعتبارها نتيجة للثقة التي يشعر بها بوش إثر انتصاره في العراق. وكما هي حال معظم النقاشات ذات الصلة بالنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فان الكليشيهات المتلاعب بها والافتراضات المبالغ بها، وليس حقائق النفوذ والتاريخ الحي، هي التي تصوغ نسق الخطاب. ويُنحّى المشككون والنقاد جانباً باعتبارهم مناهضين لأميركا، في الوقت الذي دان فيه جزء كبير من القيادة المنظمة لليهود خريطة الطريق باعتبار أنها بحاجة إلى كثرة كثيرة من التنازلات الإسرائيلية. لكن الصحافة السائدة تواصل تذكيرنا بأن شارون تحدث عن احتلال، وهو ما لم يعترف به إطلاقا حتى الآن، وأعلن في الواقع نيته أن ينهي حكم إسرائيل المفروض على 3.5 مليون فلسطيني. لكن هل هو مكترث حقاً بما ينوي إنهاءه؟ كتب جدعون ليفي المعلق في هآرتس في 1 حزيران (يونيو) أن شارون، مثل معظم الإسرائيليين، لا يعرف شيئاً عن الحياة في ظل حظر التجول في تجمعات السكان التي تخضع للحصار منذ سنوات. ماذا يعرف عن الإذلال عند نقاط التفتيش، أو عن إجبار أشخاص على السفر على دروب الحصى والطين، معرضين حياتهم للخطر، كي يوصلوا امرأة توشك أن تلد إلى مستشفى؟ عن الحياة على حافة مجاعة؟ عن بيت مهدّم؟ عن أطفال يرون آباءهم وأمهاتهم يتعرضون للضرب والإذلال في منتصف الليل؟.
ومن القضايا الأخرى التي أغفلت بشكل مثبّط من خريطة الطريق الجدار العازل الضخم الذي يجري تشييده الآن في الضفة الغربية من قبل إسرائيل: 347 كيلومتراً من الكونكريت الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب، نُصب منه بالفعل 120 كيلومتراً. ويبلغ ارتفاعه 25 قدماً وسمكه عشرة أقدام، وتقدّر كلفته بـ1.6 مليون دولار لكل كيلومتر. والجدار لا يفصل فحسب إسرائيل عن دولة فلسطينية مفترضة على أساس حدود 1967: انه يضم في الواقع مساحات جديدة من أراضي فلسطين، تمتد أحيانا خمسة أو ستة كيلومترات. والجدار محاط بخنادق وأسلاك كهرباء وخنادق مائية، وهناك أبراج مراقبة على مسافات منتظمة. وبعد عقد تقريباً على انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، يرتفع هذا الجدار العنصري البشع من دون أن يرتفع صوت يذكر من غالبية الإسرائيليين أو حلفائهم الأميركيين الذين سيدفعون، شاءوا أو أبوا، معظم كلفته. ويعيش سكان بلدة قلقيلية الفلسطينيون البالغ عددهم 40 ألف شخص في منازلهم على جانب من الجدار، بينما تقع الأرض التي يزرعونها ويعيشون منها على الجانب الآخر منه. ويقدّر انه عندما يُنجز الجدار - فيما تواصل الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيون على الأرجح الجدل بشأن قضايا إجرائية على مدى شهور من غير انقطاع - سيكون حوالي 300 ألف فلسطيني قد فُصلوا عن أراضيهم. تلزم خريطة الطريق الصمت عن هذا كله، كما هي الحال أيضا بشأن موافقة شارون أخيرا على جدار على الجانب الشرقي للضفة الغربية، الذي سيقلّص، في حال إنشائه، من حجم الأراضي المتاحة للدولة التي يحلم بها بوش إلى حوالي 40 في المئة من المنطقة. وهذا هو ما كان يخطط له شارون طوال الوقت.
يكمن تفسير غير معلن وراء موافقة إسرائيل المقترنة بتعديلات كثيفة على الخطة والتزام الولايات المتحدة الواضح بها: النجاح النسبي للمقاومة الفلسطينية. ويصح هذا بغض النظر عن الموقف من بعض وسائلها وشجبها، وكلفتها الباهظة، والخسائر الجسيمة التي ألحقتها بجيل آخر من الفلسطينيين الذين لم يستسلموا كلياً في وجه التفوق الساحق للقوة الإسرائيلية - الأميركية. وقُدمت أنواع الأسباب شتى لظهور خريطة الطريق: أن 56 في المئة من الإسرائيليين يؤيدونها، وأن شارون رضخ أخيراً للواقع الدولي، وأن بوش يحتاج إلى غطاء عربي - إسرائيلي لمغامراته العسكرية في أماكن أخرى، وان الفلسطينيين ثابوا أخيرا إلى رشدهم وقدّموا أبو مازن (الاسم الأكثر شيوعاً لمحمود عباس)، وهلم جراً. بعض هذا صحيح، لكنني ما زلت أجادل انه لولا حقيقة رفض الفلسطينيين العنيد القبول بأنهم شعب مهزوم، كما وصفهم أخيرا رئيس الأركان الإسرائيلي، لما كانت هناك خطة سلام. مع ذلك، يخطىء كل من يعتقد أن خريطة الطريق تطرح أي شيء يقرب من تسوية أو يعالج القضايا الأساسية. فهي، مثل الكثير من خطاب السلام السائد، تلقي الحاجة إلى ضبط النفس والتخلي عن العنف والتضحية بالكامل على أكتاف الفلسطينيين، وتتجاهل بذلك ثقل تاريخ الفلسطينيين وأهميته المطلقة. فقراءة خريطة الطريق تعني أن يصطدم المرء بوثيقة تقع خارج سياق الزمان والمكان وتتغافل عنهما.
خريطة الطريق، بمعنى آخر، ليست خطة للسلام بمقدار ما هي خطة للتهدئة: إنها تدور حول وضع حد لفلسطين كمشكلة. من هنا تكرار تعبير الأداء في خطاب الوثيقة الجاف. أي، بكلمة أخرى، كيف يُتوقع أن يتصرف الفلسطينيون، بالمعنى الاجتماعي تقريباً للكلمة. لا عنف، ولا احتجاج، ومزيداً من الديموقراطية، وزعماء ومؤسسات أفضل، وكل ذلك بالاستناد على فكرة أن المشكلة في الأساس تتمثل في ضراوة المقاومة الفلسطينية، وليس الاحتلال الذي تسبب في نشوئها. ولا يتوقع أي شيء مماثل إطلاقا من إسرائيل باستثناء أن المستوطنات الصغيرة التي أشرت إليها أعلاه، التي تعرف بـنقاط استيطان غير شرعية (وهو تصنيف جديد كلياً يلمح إلى أن بعض الكيانات المزروعة في أراضي فلسطين هي شرعية)، يجب أن يجري التخلي عنها، وان تُجمّد المستوطنات الكبيرة، نعم، لكن لن يجري إزالتها أو تفكيكها. ولا ترد أي كلمة عما عاناه الفلسطينيون منذ 1948، ومرة أخرى منذ 1967، على أيدي إسرائيل والولايات المتحدة. ولا شيء عن إلغاء تنمية الاقتصاد الفلسطيني كما تصف ذلك الباحثة الأميركية سارة روي في كتاب يصدر قريباً (العلم والسياسة: مختارات من أعمال سارة روي عن التجربة الفلسطينية الإسرائيلية 1985-2003). هدم المنازل، واقتلاع الأشجار، وخمسة آلاف سجين أو أكثر، وسياسة الاغتيالات المستهدفة، وعمليات الإغلاق منذ 1993، ودمار البنى التحتية بالجملة، والعدد المروع للقتلى والمشوهين - هذا كله وأكثر، يمر من دون كلمة.
إن العدوان الوحشي والموقف الأحادي المتغطرس للفريقين الأميركي والإسرائيلي معروفان بالفعل. أما الفريق الفلسطيني فإنه لا يبعث أي ثقة تُذكر، إذ يتألف من عناصر مستهلكة وهرِمة من أعوان عرفات. وبالفعل، يبدو أن خريطة الطريق منحت ياسر عرفات فرصة أخرى للحياة، على رغم كل المساعي المدروسة من جانب باول ومساعديه لتجنب زيارته. فهو لا يزال متحكماً بمجريات الأمور على رغم سياسة إسرائيل الغبية بالسعي إلى إذلاله بمحاصرته في مقر قُصف بقوة. وهو ما يزال الرئيس المنتخب لفلسطين، ويمسك بيديه الخيوط التي تتحكم بكيس المال الفلسطيني (لم يعد الكيس منتفخاً). أما بالنسبة إلى مكانته، فلا أحد من فريق الإصلاح الحالي (الذي يتألف من أعضاء الفريق القديم بعد تغيير مواقعهم، باستثناء إضافتين أو ثلاث إضافات جديدة مهمة) يمكن أن يضاهي شخصية الرجل الكهل الجذابة ونفوذه.
لنأخذ أولا أبو مازن. التقيته للمرة الأولى في آذار (مارس) 1977 في أول اجتماع احضره للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة. كانت كلمته الأطول، وألقاها بالأسلوب الوعظي الذي لا بد انه أتقنه أولا كمعلم مدرسة ثانوية في قطر، وبيّن للنواب الفلسطينيين المجتمعين الفروقات بين الصهيونية والمعارضة الصهيونية. وكانت مداخلة جديرة بالانتباه لأن معظم الفلسطينيين لم تكن لديهم أي فكرة في تلك الأيام بأن إسرائيل لم تكن تتألف من صهاينة أصوليين كان كل عربي يبغضهم، بل تضم أيضا صنوفاً شتى من دعاة السلام والنشطاء. وإذا تأملنا في أحداث الماضي، سنرى أن خطاب أبو مازن أطلق حملة منظمة التحرير الفلسطينية لتنظيم اجتماعات، كان معظمها سرياً، بين فلسطينيين وإسرائيليين اجروا حوارات طويلة في أوروبا حول السلام ومارسوا تأثيراً كبيراً إلى حد ما في مجتمعاتهم بخلق قاعدة التأييد التي جعلت اتفاق اوسلو ممكناً.
مع ذلك، لم يشك احد في أن عرفات كان أعطى موافقته على كلمة أبو مازن والحملة اللاحقة، التي كلفت رجالاً شجعاناً مثل عصام السرطاوي وسعيد حمامي حياتهم. وبينما جاء المشاركون الفلسطينيون من قلب المشهد السياسي الفلسطيني (أي فتح)، كان الإسرائيليون مجموعة مهمّشة صغيرة من مؤيدي السلام المنبوذين الذين كانت شجاعتهم موضع تقدير لهذا السبب بالذات. وخلال السنوات التي أمضتها منظمة التحرير في بيروت بين عامي 1971 و1982، كان أبو مازن موجوداً في دمشق، لكنه انضم إلى عرفات المنفي وموظفيه في تونس على امتداد العقد التالي. وقد رأيته هناك مرات عدة ولفت انتباهي مكتبه الحسن التنظيم، وأسلوبه البيروقراطي الهادىء، واهتمامه الواضح بأوروبا والولايات المتحدة كمجالين يمكن للفلسطينيين فيهما أن ينجزوا عملاً مفيداً بالترويج للسلام مع الإسرائيليين. وبعد مؤتمر مدريد في 1991، قيل انه جمع بين موظفين تابعين لمنظمة التحرير ومثقفين مستقلين في أوروبا وحوّلهم إلى فرق لإعداد ملفات تفاوض حول مواضيع مثل المياه واللاجئين والديموغرافيا والحدود، قبل ما أصبح يُعرف لاحقاً بلقاءات اوسلو السرية في 1992 و1993، على رغم انه، على حد علمي، لم يُستخدم أي من الملفات، ولم يشارك أي من الخبراء الفلسطينيين بشكل مباشر في المحادثات، ولم يؤثر أي من نتائج هذا البحث في الوثائق النهائية التي صدرت.
في اوسلو، حشد الإسرائيليون مجموعة من الخبراء المدعومين بخرائط ووثائق وإحصاءات وما لا يقل عن 17 مسودة مسبقة لما سيوقع عليه الفلسطينيون في النهاية، بينما قصر الفلسطينيون للأسف مفاوضيهم على ثلاثة رجال مختلفين كلياً من منظمة التحرير، لا أحد منهم يعرف الإنكليزية أو يملك خلفية في التفاوض الدولي (أو أي نوع آخر سواه). ويبدو أن عرفات كان يهدف من إرسال فريق بشكل أساسي إلى أن يُبقي نفسه في العملية، خصوصاً بعد خروجه من بيروت وقراره الكارثي بالوقوف إلى جانب العراق خلال حرب الخليج في 1991. وإذا كانت هناك أهداف أخرى في باله، فإنه لم يُعدّ لها بشكل فاعل، كما كانت حاله دائماً. وفي مذكرات أبو مازن (عبر القنوات السرية: الطريق إلى اوسلو، 1995)، وفي تقارير محكية أخرى عن محادثات اوسلو، يشار إلى مساعد عرفات باعتباره مهندس الاتفاق، على رغم انه لم يغادر تونس إطلاقا. ويذهب أبو مازن إلى حد القول بأنه احتاج إلى سنة بعد احتفالات واشنطن (حيث ظهر إلى جانب عرفات ورابين وبيريز وكلينتون) كي يقنع عرفات بأنه لم يحصل على منزلة أو مكسب من اوسلو! مع ذلك، يؤكد معظم التقارير عن محادثات السلام حقيقة أن عرفات كان يحرّك كل الخيوط. لا عجب إذاً أن تؤدي مفاوضات اوسلو إلى جعل الوضع الإجمالي للفلسطينيين أكثر سوءاً بكثير. ودأب الفريق الأميركي بقيادة دنيس روس، الموظف السابق في اللوبي الإسرائيلي - وهي وظيفة عاد إليها الآن - على تأييد الموقف الإسرائيلي الذي انطوى، بعد عقد كامل من المفاوضات، على إعادة 18 في المئة من الأراضي المحتلة للفلسطينيين وفق شروط غير مؤاتية إلى حد كبير، بترك الجيش الإسرائيلي مسؤولاً عن الأمن والحدود والمياه. لذا كان من الطبيعي أن يرتفع عدد المستوطنات إلى أكثر من الضعف.
ومنذ عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة في 1994، بقي أبو مازن شخصية من الصف الثاني، يُعرف عالمياً بـمرونته مع إسرائيل، وتبعيته لعرفات، وافتقاره التام لأي قاعدة سياسية منظمة، على رغم انه احد مؤسسي فتح وعضو في لجنتها المركزية وأمينها العام منذ وقت طويل. وهو على حد علمي لم يُنتخب أبداً إلى أي شيء، وبالتأكيد لم يُنتخب إلى المجلس التشريعي الفلسطيني. وتفتقر منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بقيادة عرفات إلى الشفافية. فلا يُعرف شيء يذكر عن الطريقة التي اُتخذت بها القرارات، أو كيف تُنفق الاموال، وأين هي، ومن يتمتع إلى جانب عرفات بدور في اتخاذ القرار. لكن الجميع يتفقون بأن عرفات لا يزال الشخصية المحورية على كل المستويات. ولهذا السبب يرى معظم الفلسطينيين أن ترقية أبو مازن إلى مكانة رئيس الوزراء المسؤول عن الإصلاح، التي تُسعد كثيراً الأميركيين والإسرائيليين، هي أشبه بنكتة، وأنها الوسيلة التي يلجأ إليها الرجل الهرم للتمسك بالسلطة بابتكار أداة تحايل جديدة. وينظر إلى أبو مازن عموماً على انه شخصية باهتة ولا يحمل أي أفكار واضحة خاصة به، سوى انه يريد أن يرضي الرجل الأبيض.
ومثل عرفات، لم يُقم أبو مازن أبداً في أي مكان خارج منطقة الخليج وسورية ولبنان وتونس، والآن فلسطين المحتلة. وهو لا يعرف أي لغات عدا العربية، ولا يُعد متحدثاً يجيد الخطابة أو يفرض حضوره في مناسبات عامة. وبالمقارنة معه، يبدو محمد دحلان، المسؤول الجديد للأمن من غزة - الشخصية الأخرى التي جرى الترويج لها كثيراً ويبني الإسرائيليون والأميركيون عليها آمالاً عريضة - أكثر شباباً وذكاءً وقاسياً تماماً. وخلال السنوات الثماني التي أدار خلالها إحدى منظمات الأمن الـ14 أو 15 التابعة لعرفات، كانت غزة تُعرف بـدحلانستان. وقد استقال العام الماضي، لكن سرعان ما أوكلت إليه مهمة رئيس الأمن الموحد من جانب الأوروبيين والأميركيين والإسرائيليين، على رغم انه هو أيضا كان دائماً احد رجال عرفات. ويُتوقع منه في الوقت الحاضر أن يتخذ إجراءات صارمة ضد حماس والجهاد الإسلامي، وهي احد المطالب الإسرائيلية المتكررة التي يكمن وراءها الأمل في أن يكون هناك ما يشبه حرب أهلية فلسطينية، ويتوق إليها العسكريون الإسرائيليون.
في كل الأحوال، يبدو واضحاً لي انه مهما كان أداء أبو مازن مثابراً ومرناً، فإنه سيكون مقيداً بثلاثة عوامل. احدها بالطبع هو عرفات ذاته، الذي لا يزال يسيطر على فتح التي هي أيضا، نظرياً، قاعدة نفوذ أبو مازن. العامل الآخر هو شارون (الذي يُفترض أن تقف الولايات المتحدة وراءه إلى نهاية الشوط)، وفي لائحة من 14 ملاحظة حول خريطة الطريق نُشرت في صحيفة هآرتس في 27 أيار (مايو) الماضي، كشف شارون القيود الصارمة جداً على أي شيء يمكن اعتباره مرونة من جانب إسرائيل. العامل الثالث هو بوش وبطانته. فانطلاقاً من الطريقة التي تعاملوا بها مع أفغانستان والعراق ما بعد الحرب، لا يملك هؤلاء الرغبة أو الجدارة لعملية بناء الأمة التي ستكون مطلوبة بالتأكيد. وقد شرعت قاعدة بوش المسيحية اليمينية في الجنوب بالفعل في الاحتجاج بصخب على تسليط ضغوط على إسرائيل، وانطلق اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل ذو النفوذ الكبير، مع تابعه الطيّع المتمثل بالكونغرس الأميركي الذي تحتله إسرائيل، متحركاً ضد أي تلميح باستخدام القسر ضد إسرائيل، على رغم أن ذلك سيكون حاسماً الآن مع بدء مرحلة نهائية.
قد أبدو متفائلاً على نحو مفرط إذا قلت أن الآفاق ليست قاتمة إطلاقا، حتى إذا كانت الآفاق القريبة كالحة من منظور فلسطيني. أعود إلى العناد الذي أشرت إليه أعلاه، وحقيقة أن المجتمع الفلسطيني - المدمّر، والمهدم تقريباً، والبائس من نواحٍ كثيرة - يشبه طائر الدجّ في رواية هاردي، نافشاً ريشه بعد إطلاق النار عليه، إذ لا يزال قادراً على أن يبسط روحه الوثابة على الكآبة المتزايدة. لا يوجد مجتمع عربي آخر يماثله في عناده وجموحه، ولا نظير لما يحفل به من مبادرات مدنية واجتماعية ومؤسسات فاعلة (بما في ذلك معهد موسيقي نابض بالحيوية على نحو رائع). وعلى رغم أن فلسطينيي الشتات غير منظمين في الغالب ويعيشون في بعض الحالات حياة بائسة من النفي وعدم الانتماء إلى دولة، فإن المشاكل المتعلقة بمصيرهم الجماعي لا تزال تحرّكهم بقوة، وكل من اعرفه يحاول دائماً بطريقة ما أن يخدم القضية. ولم يجد سوى جزء ضئيل جداً من هذه الطاقة سبيله إلى السلطة الفلسطينية، التي بقيت باستثناء شخصية عرفات المتناقضة إلى حد كبير ذات تأثير هامشي بالنسبة إلى المصير المشترك. وبحسب استطلاعات للرأي أجريت أخيرا فإن فتح وحماس يتقاسمان بينهما تأييد حوالي 45 في المئة من الناخبين الفلسطينيين، فيما تتوزع الـ55 في المئة المتبقية على تشكيلات سياسية مختلفة تماماً ذات آفاق مشجعة أكثر بكثير.
ولفتت إحدى هذه التشكيلات انتباهي بشكل خاص لأهميتها (وربطتُ نفسي بها) نظراً إلى أنها الوحيدة ذات القاعدة الشعبية وتنأى بنفسها بعيداً عن الأحزاب الدينية وسياساتها الطائفية، وعن النزعة القومية التقليدية التي يمثلها نشطاء فتح القدامى (وليس الشباب) التابعين لعرفات. وقد أطلق عليها اسم المبادرة السياسية الوطنية، والشخصية الرئيسية فيها هو مصطفى البرغوثي، الطبيب الذي تلقى تعليمه في موسكو وكان عمله الأساسي مدير لجنة القرى للإغاثة الطبية المثيرة للإعجاب، التي وفرت الرعاية الطبية لأكثر من 100 ألف فلسطيني في المناطق الريفية. والبرغوثي، الناشط السابق في الحزب الشيوعي، منظم وقائد يتحدث بنبرة خافتة، اجتاز مئات العقبات المادية التي تعترض حركة الفلسطينيين أو سفرهم ليحشد تقريباً كل فرد ومنظمة مستقلة ذات شأن وراء برنامج سياسي يعد بالإصلاح الاجتماعي بالإضافة إلى التحرر متجاوزاً الانتماءات العقائدية. وعمل البرغوثي، متحرراً على نحو فريد من اللغة الطنانة التقليدية، مع إسرائيليين وأوروبيين وأميركيين وأفارقة وآسيويين وعرب لبناء حركة تضامن كفوءة تمارس التعددية والتعايش اللذين تبشر بهما. ولا ترفع المبادرة السياسية الوطنية يديها بوجه نزعة العسكرة السائبة للانتفاضة. انها تعرض برامج تدريب للعاطلين عن العمل وخدمات اجتماعية للمحرومين انطلاقاً من أن ذلك يستجيب للظروف الحالية والضغوط الإسرائيلية. وقبل كل شيء تسعى المبادرة السياسية الوطنية، التي توشك أن تصبح حزباً سياسياً منظماً، إلى تعبئة المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي المنفى من اجل انتخابات حرة: انتخابات أصيلة تمثل مصالح الفلسطينيين، بدلاً من مصالح إسرائيل أو الولايات المتحدة. هذا الإحساس بالأصالة هو ما يبدو مفقوداً في الطريق الذي اُختطّ لأبو مازن.
الرؤية هنا ليست دولة مؤقتة مصطنعة على 40 في المئة من الأرض، مع التخلي عن اللاجئين واحتفاظ إسرائيل بالقدس، بل ارض ذات سيادة تُحرّر من الاحتلال العسكري عبر تحرك جماهيري يشمل العرب واليهود حيثما أمكن ذلك. ولأن المبادرة السياسية الوطنية حركة فلسطينية أصيلة، أصبح الإصلاح والديموقراطية جزءاً من ممارستها اليومية. وقد انتمى إليها بالفعل المئات من ابرز النشطاء والمستقلين في فلسطين، وعقدت اجتماعات تنظيمية، وفي النية عقد المزيد منها في الخارج وفي فلسطين، على رغم الصعوبات الفظيعة التي تسببها قيود إسرائيل على حرية الحركة. ويشعر المرء ببعض العزاء إذ يرى، في الوقت الذي تتواصل فيه المفاوضات والمحادثات الرسمية، أن هناك مجموعة بدائل غير رسمية لم يتم احتواءها، وتمثل المبادرة الوطنية وحركة تضامن عالمية متنامية في الوقت الحاضـر المكونات الرئيسية لهذه البدائل.