في مطلع أيار (مايو)، كنت في سياتل لالقاء محاضرات على مدى بضعة ايام. واثناء وجودي هناك، تناولت العشاء مع والدي راشيل كوري وشقيقتها الذين كانوا لا يزالون في حال صدمة منذ جريمة قتل ابنتهم في 16 آذار (مارس) الماضي في غزة ببلدوزر اسرائيلي. وأبلغني السيد كوري انه شخصياً كان يقود بلدوزرات، على رغم أن البلدوزر الذي قتل ابنته بصورة متعمدة، لأنها كانت تحاول ببسالة ان تمنع تدمير منزل فلسطيني في رفح، كان شيئاً ضخماً يزن 60 طناً صممته كاتربيلر خصيصاً لتدمير المنازل، وهو ماكينة أكبر بكثير من أي شيء سبق ان شاهده أو قاده. واستوقفني شيئان بشأن زيارتي القصيرة ولقائي والدي كوري. الاول هو ما قالاه عن عودتهما الى الولايات المتحدة مع جثمان ابنتهما. فقد اتصلا فوراً بعضوي مجلس الشيوخ عن ولايتهما، باتي موراي وماري كانتول، وكلاهما ديموقراطي، وابلغاهما ما جرى وتلقيا التعابير المتوقعة عن مشاعر الصدمة والحنق والغضب ووعوداً باجراء تحقيق. لكن منذ عودة كلا المرأتين الى واشنطن لم يسمع والدا كوري اي شيء آخر منهما، ولم يجر التحقيق الموعود. فكما هو متوقع، تولى اللوبي الاسرائيلي توضيح الحقائق لعضوي مجلس الشيوخ، وتراجعا كلاهما عن وعوده. هكذا، قُتلت مواطنة اميركية بصورة متعمدة على ايدي جنود دولة تابعة للولايات المتحدة من دون ان يثير ذلك ولو مجرد احتجاج رسمي خافت أو حتى اجراء التحقيق المطلوب الذي وُعدت به عائلتها.
لكن الجانب الثاني والأهم بكثير في حكاية راشيل كوري بالنسبة اليّ كان موقف الشابة ذاته، المتصف بالبطولة والشعور بالكرامة في الوقت نفسه. ولدت راشيل ونشأت في اوليمبيا، وهي مدينة صغيرة تبعد 60 ميلاً جنوب سياتل، وانضمت الى حركة التضامن العالمية وذهبت الى غزة للوقوف الى جانب بشر معذبين لم تكن لها اي صلة بهم من قبل. وتمثل الرسائل التي كانت تبعث بها الى عائلتها وثائق رائعة حقاً عن انسانيتها العادية، وتترك قراءتها أثراً عميقاً في النفس، خصوصاً عندما تصف مشاعر الود والقلق التي كان يبديها ازاءها كل الفلسطينيين الذين تصادفهم. ويبدو واضحاً انهم كانوا يرحبون بها كواحدة منهم، لأنها تعيش معهم كما يفعلون تماماً، تقاسمهم حياتهم ومخاوفهم، بالاضافة الى فظائع الاحتلال الاسرائيلي وآثاره المروعة حتى على اصغر طفل. انها تعي مصير اللاجئين، وما تسميه المحاولة الغادرة من قبل الحكومة الاسرائيلية لتنفيذ نوع من الابادة يجعل إمكان بقاء هذه المجموعة من البشر على قيد الحياة شيئاً يكاد يكون مستحيلاً. ويهز تضامنها المشاعر إلى حد انه يلهم جندي احتياط اسرائيلياً اسمه داني كان رفض اداء الخدمة العسكرية ان يكتب اليها قائلاً: انك تقومين بشيء جيد. شكراً لما تفعلينه.
وما يبرز بقوة عبر كل الرسائل التي بعثت بها الى عائلتها والتي نُشرت في وقت لاحق في صحيفة ذي غارديان البريطانية هو المقاومة المدهشة التي يبديها الفلسطينيون انفسهم، أولئك البشر العاديون الذين حشروا في وضع شنيع للغاية من المعاناة واليأس ولكنهم يواصلون الصمود على رغم ذلك. لقد سمعنا الكثير اخيراً عن خريطة الطريق وآفاق السلام لدرجة اننا غفلنا عن الحقيقة الاساسية الاولى، وهي ان الفلسطينيين رفضوا ان يذعنوا او يستسلموا حتى في ظل العقاب الجماعي الذي ينزله بهم جبروت الولايات المتحدة واسرائيل معاً. هذه الحقيقة الاستثنائية هي السبب وراء وجود خريطة الطريق وكل ما سبقها مما يُسمى بخطط السلام، وليس ابداً لان الولايات المتحدة واسرائيل والمجتمع الدولي اقتنعوا لأسباب انسانية بأن القتل واعمال العنف يجب ان تتوقف. إذا اغفلنا هذه الحقيقة عن قوة المقاومة الفلسطينية (التي لا اقصد بها اطلاقاً عمليات التفجير الانتحارية، التي تلحق الأذى اكثر بكثير من أي نفع)، بالرغم من كل اخفاقاتها وكل اخطائها، فإننا نغفل كل شيء. كان الفلسطينيون يمثلون دائماً مشكلة بالنسبة الى المشروع الصهيوني، وقُدّم دائماً بانتظام ما يسمى بالحلول التي تهدئ المشكلة الى أدنى حد بدلاً من حلها. وكانت السياسة الاسرائيلية الرسمية، بغض النظر عما اذا كان شارون يستخدم كلمة احتلال او لا، وبغض النظر عن قيامه أو عدم قيامه بتفكيك برج أو برجين صدئين وغير مستعملين، تقوم دائماً على رفض قبول التعامل بندّية مع الفلسطينيين او الاعتراف اطلاقاً بأن حقوقهم انتهكت بشكل مخزٍ كل الوقت من جانب اسرائيل. وفي الوقت الذي حاول بضعة اسرائيليين شجعان على مدى السنين ان يتعاملوا مع هذا التاريخ الآخر المخفي، فإن معظم الاسرائيليين وما يبدو انه غالبية اليهود الاميركيين بذلوا قصارى جهدهم لإنكار أو تحاشي أو إلغاء الواقع الفلسطيني. هذا هو سبب عدم وجود سلام.
بالإضافة الى ذلك، لا تقول خريطة الطريق شيئاً عن العدل أو عن العقاب التاريخي الذي اُنزل بالشعب الفلسطيني طوال عقود لا تُحصى. لكن ما كشفه عمل راشيل كوري في غزة هو بالضبط الثقل النوعي للتاريخ الحي للشعب الفلسطيني كمجموعة بشرية ذات خصائص وطنية وليس مجرد مجموعة لاجئين محرومين. هذا هو ما كانت راشيل تتضامن معه. وعلينا ان نتذكر بأن هذا النوع من التضامن لم يعد مقصوراً على عدد ضئيل من الاشخاص الشجعان هنا وهناك، بل اصبح معروفاً في ارجاء العالم. القيتُ في الاشهر الستة الماضية محاضرات في أربع قارات أمام آلاف الاشخاص. وكان ما يجمعهم هو فلسطين وكفاح الشعب الفلسطيني الذي أصبح الآن كلمة متداولة مرادفة للتحرر والاستنارة، بغض النظر عن كل انواع الذم والاساءة التي يرميهم بها اعداؤهم.
وكلما تُكشف الحقائق، يجري الاقرار فوراً بعدالة القضية الفلسطينية والتعبير عن أعمق درجات التضامن مع الكفاح الباسل للشعب الفلسطيني. وكان شيئاً استثنائياً ان تكون فلسطين قضية محورية هذه السنة خلال اجتماعات بورتو اليغري المناهضة للعولمة وأيضاً خلال اجتماعي دافوس وعمان، وهما قطبا الطيف السياسي للعالم كله. لكن الاميركيين بشكل عام يحملون فكرة سيئة جداً عن العرب والفلسطينيين، وهو شيء ينبغي أن لا يثير الاستغراب اخذاً في الاعتبار انهم يُلقمون من جانب وسائل الاعلام مزيجاً من الجهل وتشويه الحقائق يتصف بتحيز فظيع، عندما لا يشار أبداً الى الاحتلال بالطريقة الشنيعة التي توصف بها الهجمات الانتحارية، ولا تعرض سي إن إن وشبكات التلفزيون ابداً جدار الفصل العنصري الذي تشيّده اسرائيل ويبلغ ارتفاعه 25 قدماً وسمكه خمس اقدام ويمتد 350 كيلومتراً (ولا يُشار اليه حتى بشكل عابر طوال العرض الباهت لـخريطة الطريق)، ولا تُعرض جرائم الحرب، والتدمير والاذلال بلا مبرر، والتشويه الجسدي، وهدم المنازل، ودمار الزراعة، والموت الذي يُفرض على المدنيين الفلسطينيين، كما هي معاناتهم بالفعل يومياً وبشكل روتيني تماماً. فتذكروا رجاءً ان كل الاجهزة الرئيسية لمؤسسات الاعلام المهيمنة، من الاتجاه الليبرالي اليساري وصولاً الى اليمين المتطرف، هي بالاجماع مناهضة للعرب ومناهضة للمسلمين ومناهضة للفلسطينيين. انظروا الى جبن وسائل الاعلام خلال فترة التهيئة لحرب غير شرعية وغير عادلة ضد العراق، ولاحظوا مدى ضآلة التغطية آنذاك للأذى الهائل الذي لحق بالشعب العراقي من جراء العقوبات، وقلة التقارير التي تناولت الحملات الضخمة المناهضة للحرب في ارجاء العالم. لم يجرؤ صحافي باستثناء هيلين توماس على توبيخ الادارة لما اطلقته من اكاذيب شنيعة وحقائق مركبة بشأن العراق مدعية انه كان يمثل خطراً وشيكاً على الولايات المتحدة قبل الحرب، تماماً كما يُسمح حالياً لخبراء الدعاية ذاتهم في الحكومة، الذين يجري الآن تناسي ما اختلقوه ولفقوه بشكل لا اخلاقي من حقائق حول اسلحة الدمار الشامل والادعاء بأنها ليست ذات صلة، ان يفلتوا من الحساب من وسائل الاعلام الجدية عند مناقشة الوضع المريع، الذي لا يمكن تبريره اطلاقاً، والذي خلقته الولايات المتحدة لشعب العراق بشكل احادي ولا مسؤول. ومهما كانت المسؤولية التي تُلقى على صدام حسين كطاغية وحشي، وهو ما كان بالفعل، فإنه وفّر للشعب العراقي بنية تحتية للخدمات، مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم، افضل من أي بلد عربي. ولم يعد هناك أي شيء من ذلك.
لا غرابة اذن، ازاء الخوف من تهمة اللاسامية عند انتقاد إسرائيل بسبب جرائمها اليومية ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، أو تهمة العداء لأميركا عند انتقاد حربها اللاشرعية واحتلالها العسكري، أن الحملة الشرسة من الحكومة ووسائل الاعلام على المجتمع العربي وتاريخه وثقافته وذهنيته بقيادة أشخاص بدائيين مثل برنارد لويس ودانيال بايبس أرهبت كثيرين منّا واقنعتهم بأن العرب حقيقةً قوم متأخرون عاجزون ولا مستقبل لهم، وأن الفشل في التطور والديموقراطية يجعلهم الوحيدين في العالم في التخلف والرجعية. لكن هذه هي النقطة التي يجب عندها تعبئة كل مشاعر الكرامة والفكر التاريخي النقدي كي نميز بين الحقيقة والدعايات.
لا انكار ان البلاد العربية اليوم تخضع لأنظمة لا شعبية لها، وأن أعداداً غفيرة من الشبيبة العربية الفقيرة والمحرومة تبقى معرضة للأصولية الدينية في أقسى أشكالها. لكن من الكذب المحض القول، كما تكرر نيويورك تايمز، أن المجتمعات العربية تخضع للسيطرة التامة وليس هناك أي حرية للتعبير ولا مؤسسات مدنية أو حركات اجتماعية نشيطة. فعلى رغم قوانين النشر يمكنك في قلب عمان اليوم شراء صحيفة شيوعية أو إسلامية، فيما نجد في مصر ولبنان الكثير من الصحف والمجلات التي تشير الى مستوى من النقاش يفوق ما يتوقع عادة من تلك المجتمعات، ناهيك عن الفضائيات التي تبث تشكيلة مذهلة التضارب من الآراء والتوجهات. أما المؤسسات المدنية فهي تعمل بحيوية في مختلف أنحاء العالم العربي في مجالات مثل الخدمات الاجتماعية وحقوق الانسان والعمل النقابي ودور الأبحاث. واذ لا يزال الكثير مما يجب عمله قبل التوصل الى المستوى المطلوب من الديموقراطية فإننا في الطريق اليها.
وفي فلسطين وحدها أكثر من ألف منظمة غير حكومية، ويعود الى هذا النوع من النشاط الفضل في ادامة المجتمع بالرغم من كل جهود أميركا واسرائيل لتدميره. هذا المجتمع لم يصب بالهزيمة أو يصل الى مرحلة الانهيار، ولا يزال الأطفال يذهبون الى المدارس، ويواصل الأطباء والممرضون والممرضات العناية بالمرضى، ويذهب الرجال والنساء الى العمل، وتعقد المنظمات اجتماعاتها، ويستمر الناس في العيش - وهو ما يشكل كما يبدو تحدياً لشارون وغيره من المتطرفين الذين لا يريدون للفلسطينيين سوى السجن أو التهجير. لكن الحل العسكري لم ينجح ولن ينجح. ولماذا يجد الاسرائيليون صعوبة في فهم ذلك؟ ان علينا مساعدتهم على الفهم، لكن ليس بالتفجيرات الانتحارية بل بالنقاش العقلاني والعصيان المدني الشعبي والاحتجاج المنظم هنا وفي كل مكان.
ما أريد اثباته أن علينا تناول العالم العربي عموماً وفلسطين على وجه الخصوص بمنظور يعتمد على المقارنة والنقد وليس من خلال مؤلفات سطحية مستهينة مثل كتاب لويس أين حصل الخلل؟ أو تصريحات بول ولفوفيتز الجاهلة عن جلب الديموقراطية الى العالم العربي والاسلامي. ومهما كانت الآراء في العرب فان في مجتمعاتهم ديناميكيات فاعلة لأنهم بشر حقيقيون في مجتمعات حقيقية تحفل بالتيارات المتقاطعة والمتعارضة ولا يمكن بسهولة وصفها بأنها بؤر للتعصب الجماعي والعنف. والكفاح الفلسطيني من أجل العدالة هو في شكل خاص ما يمكن التعبير عن التضامن معه، بدل الانتقاد الذي لا نهاية له والاحباط المتمادي والشقاق المشلّ.
أريد الآن الكلام عن الكرامة، التي لها بالطبع مكانة خاصة في كل ثقافة يعرفها المؤرخون والأنثروبولوجيون وحملة الثقافة الانسانية. وسأبدأ فوراً بالقول ان من العنصرية والاستشراق بالمعنى السيئ القبول بأن العرب، على خلاف الأوروبيين والأميركيين، لا يملكون شعوراً بقيمة الفرد ولا احتراماً لحياة الانسان ولا قيم الحب والحميمية والتفهم، لأن هذه تنحصر بأوروبا وأميركا اللتين مرّتا بمراحل النهضة والاصلاح الديني والاستنارة. وهناك، من بين آخرين، ذلك الشخص الغبي والمبتذل توماس فريدمان، المتاجر ببضاعته الساقطة التي قبلها منه بعض المثقفين العرب الذين لا يقلّون غباءً وضلالاً عنه - لا حاجة هنا لذكر الأسماء - الذين وجدوا في احداث 11/9 برهاناً على ان العالم العربي والاسلامي هو الأكثر اعتلالاً واضطراباً في العالم، وان الارهاب يشكل مؤشراً الى تشويه أوسع مما في بقية الثقافات.
لنترك جانباً ان أميركا وأوروبا حملتا خلال القرن الماضي مسؤولية العدد الأكبر من أعمال القتل والدمار، فيما لم يحمل العالم العربي والاسلامي ما يذكر بالمقارنة. وهناك خلف كل هذا الهذيان عن الحضارات الخيّرة والأخرى الشريرة شبح ذلك النبي الكذّاب صموئيل هنتغتون الذي دفع كثيرين الى الاعتقاد بإمكان تقسيم العالم الى حضارات منفصلة تصارع بعضهاً بعضاً الى الأبد. لكن الحقيقة هي العكس. وهنتغتون على خطأ تام في كل نقطة يوردها. إذ لا ثقافة تقف مكتفية بذاتها، وليس بينها ما يختص من دون غيره بالتركيز على قيمة الفرد والاستنارة، كما ليس لأي منها الوجود من دون روحية الجماعة والحب والتركيز على قيمة الحياة الانسانية. ان القول بغير هذا، كما يفعل هنتغتون، لا يعدو ان يكون عنصرية بحتة، مشابهة للقول بأن الأفارقة بطبيعتهم أقل من غيرهم في القدرة العقلية، أو أن الشرقيين في جوهرهم مهيئون للعبودية، وأن الأوروبيين هم العنصر الأرقى. انه نوع من محاكاة المنظور الهتلري واستعماله في شكل خاص ضد العرب والمسلمين، وعلينا بالتأكيد أن نربأ بأنفسنا عن مناقشة موقف كهذا، لأنه هراء في هراء. بالمقابل هناك الموقف الآخر الأكثر صدقية بكثير، القائل بأن حياة العرب والمسلمين، مثل غيرهم من البشر، تتضمن في جوهرها قيمة وكرامة يعبر عنهما العرب والمسلمون في أسلوبهم الثقافي الفريد، وأن لا ضرورة لأن تكون تلك التعبيرات نسخة عن نموذج واحد يجب على الكل اتباعه.
النقطة الجوهرية حول التنوع الانساني انه في النهاية شكل من التعايش العميق بين أنماط مختلفة من التجارب التي لا يمكن اختزالها الى نمط متفوق واحد، كما في الحجة الكاذبة التي يفرضها علينا الخبراء الذين ينعون على العالم العربي افتقاره الى التقدم والمعرفة. وكل ما علينا كي نرد عليها النظر الى التنوع الهائل في الأدب والسينما والمسرح والرسم والموسيقى والثقافة الشعبية التي ينتجها العرب للعرب من المغرب الى الخليج. لأن المؤكد أن كل ذلك يحتاج الى التعامل والتحليل كمؤشر الى مدى تطور العرب أو افتقارهم الى التطور، وليس درجة التطور أو عدمها كما تبينها الاحصاءات عن الانتاج الصناعي.
إلا أن النقطة الأهم هي التفاوت الكبير اليوم بين ثقافاتنا ومجتمعاتنا من جهة وتلك المجموعات الصغيرة التي تحكمها. وندر في التاريخ ان ينجمع هذا المقدار من السلطة في مجموعات بهذا الصغر، مثل هؤلاء الملوك والسلاطين والجنرالات والرؤساء الذين يحكمون العرب اليوم. وأسوأ ما في هؤلاء أنهم لا يمثلون أفضل ما في شعوبهم. المسألة هنا ليست مجرد انعدام الديموقراطية، بل استهانتهم بأنفسهم وبشعوبهم في شكل يعزلهم عن كل شيء ويضعهم موضع الرفض والخوف من أي تغيير، خصوصاً لجهة فتح مجتمعاتهم أمام شعوبهم، مع الرعب الدائم الأكبر من اغضاب الأخ الكبير، أي الولايات المتحدة. انهم لا يرون في مواطنيهم مورداً انسانياً يغني الأمة، بل متآمرين آثمين يسعون الى اغتصاب سلطة الحاكم.
هذا هو الفشل الحقيقي، كيف انه خلال الحرب الفظيعة ضد الشعب العراقي لم يملك أي زعيم عربي الثقة بالنفس ليقول شيئاً بشأن النهب والاحتلال العسكري الذي تعرض له واحد من اهم البلدان العربية. حسناً، كان شيئاً ممتازاً ان يزول نظام صدام حسين المريع، لكن من الذي نصّب الولايات المتحدة لتكون الناصح المخلص للعرب؟ من الذي طلب من الولايات المتحدة ان تحتل العالم العربي بالنيابة عن مواطنيه، كما يُزعم، وان تجلب له شيئاً يسمى ديموقراطية، خصوصاً في وقت يتدهور النظام المدرسي والنظام الصحي والاقتصاد كله في اميركا إلى أسوأ مستوى منذ الركود الكبير في 1929؟ لماذا لم يرتفع صوت العرب الجمعي ضد التدخل اللاشرعي السافر للولايات المتحدة، الذي ألحق الكثير من الأذى والكثير من الاذلال بالأمة العربية كلها؟ انه حقاً فشل هائل على مستوى الجَلَد، والكرامة، والتضامن الذاتي.
ومع كل كلام ادارة بوش عن الهداية من الخالق، ألا يملك زعيم عربي واحد ما يكفي من الشجاعة ليقول اننا، كشعب عظيم، نهتدي بأفكارنا وتقاليدنا وديننا؟ لكن لا شيء، ولا كلمة، فيما يعيش مواطنو العراق المساكين محناً فظيعة وترتجف بقية بلدان المنطقة، بل يخشى كل واحد منها ان يصبح الهدف التالي. ألم يكن هناك من يملك الجرأة ليذكّر جورج دبليو بما فعله لإذلال العرب وتعميق معاناتهم اكثر من اي شخص قبله؟ أين هو الدعم الديبلوماسي والسياسي والاقتصادي الضروري لإدامة حركة مناهضة للاحتلال في الضفة الغربية وغزة؟ بدلاً من ذلك، كل ما يسمعه المرء هو ان وزراء الخارجية يعظون الفلسطينيين بأن يصلحوا سلوكهم وينبذوا العنف ويواصلوا مفاوضات السلام، حتى بعدما أصبح واضحاً تماماً ان اهتمام شارون بالسلام يكاد يقرب من الصفر. ولم يكن هناك أي رد عربي منسق على الجدار العازل، او على عمليات الاغتيال، او على العقاب الجماعي، بل مجرد مجموعة من الكليشيهات المبتذلة التي تكرر الصيغ المهترئة المسموح بها من وزارة الخارجية الاميركية.
ربما كان الشيء الذي يستأثر باهتمامي باعتباره يمثل المستوى الأدنى لعجز العرب عن ادراك كرامة القضية الفلسطينية هو ما يتجسد في الحالة الراهنة للسلطة الفلسطينية. فقد اُختير ابو مازن لهذا المنصب من جانب عرفات واسرائيل والولايات المتحدة بالضبط لأنه لا يملك قاعدة نفوذ، ولأنه ليس خطيباً أو منظماً عظيماً، أو أي شيء في الحقيقة سوى كونه مساعداً لياسر عرفات. كيف يمكن حتى لأبو مازن ان يقف هناك في العقبة لينطق بكلمات يتحدث فيها باطراء عن معاناة اليهود، لكنه بعدئذ، وبشكل مذهل، يكاد لا ينطق بكلمة عما يقاسيه شعبه على يد إسرائيل؟ كيف يمكن ان يقبل لنفسه دوراً ملتوياً الى هذا الحد، وكيف يمكن ان ينسى كرامته الشخصية كممثل لشعب يكافح ببطولة من اجل حقوقه منذ أكثر من قرن؟ وعندما تقول اسرائيل فحسب انه ستكون هناك دولة فلسطينية موقتة، من دون أي ندم عن الأذى الهائل الذي ألحقته، وجرائم الحرب التي لا تحصى، والاذلال المنهجي السادي تماماً لكل فلسطيني، رجلاً وامرأة وطفلاً، يجب أن أعترف بأنه يصعب عليّ كلياً أن أفهم لماذا لا يكلّف زعيم أو ممثل لهذا الشعب، الذي يقاسي منذ أمد بعيد، نفسه ان يأخذ ذلك في الاعتبار. هل فقد بالكامل شعوره بالكرامة؟
هل نسى انه لم يعد مجرد فرد بل يحمل ايضاً مصير شعبه في لحظة حاسمة بشكل خاص؟ هل يوجد من لم يُصب بخيبة امل مريرة لهذا الفشل التام في ان يرتفع الى مستوى الحدث ويقف بكرامة - الكرامة المستمدة من تجربة شعبه وقضيته - وان يعبّر عنها بفخر، ومن دون مساومة، من دون غموض، ومن دون النبرة نصف الخجولة ونصف الاعتذارية التي يستخدمها الزعماء الفلسطينيون عندما يستجدون قليلاً من الشفقة من زعيم ابيض لا يستحق الاحترام اطلاقاً؟
لكن هكذا كان سلوك الحكام الفلسطينيين منذ أوسلو، بل منذ الحاج أمين، مزيج من التحدي الصبياني المضلل والتوسل البائس. لماذا يعتقدون دائماً ان من الضروري ان يتلوا نصوصاً كُتبت لهم من قبل اعدائهم؟ ان الاحساس الاساسي بالكرامة في حياتنا كعرب في فلسطين، وفي ارجاء العالم العربي، وهنا في اميركا، هو اننا اسياد انفسنا، نملك إرثاً، وتاريخاً، وتقاليد، وقبل كل شيء لغة هي اكثر من كافية لمهمة تمثيل طموحاتنا الفعلية، لأن هذه الطموحات مستمدة من تجربة التشرد والمعاناة التي فُرضت على كل فلسطيني منذ 1948. لا يتحدث أي من الناطقين السياسيين باسم الفلسطينيين - وينطبق الشيء ذاته على العرب منذ عهد جمال عبدالناصر - باحترام للذات وبكرامة عما نمثله، وما نريده، وما فعلناه، وإلى أين نريد ان نذهب.
لكن الوضع يتغير ببطء، والنظام القديم الذي يتألف من امثال ابو مازن وابو عمار يرحل وسيُستبدل تدريجاً بمجموعة جديدة من الزعماء الذين يبرزون في ارجاء العالم العربي. والمجموعة الواعدة اكثر تضم اعضاء المبادرة الفلسطينية الوطنية، وهؤلاء نشطاء يعملون على مستوى القواعد ولا يتضمن نشاطهم الرئيسي العمل وراء مناضد، او التلاعب بأرصدة مصرفية، أو البحث عن صحافيين كي ينتبهوا اليهم، بل جاؤوا من صفوف المهنيين، وفئات العمال، والمثقفين والنشطاء الشباب، والمعلمين، والاطباء، والمحامين، والعاملين الذين مكّنوا المجتمع من الصمود وفي الوقت نفسه صد الاعتداءات الاسرائيلية اليومية. ثانياً، هؤلاء اشخاص ملتزمون بذلك النوع من الديموقراطية والمشاركة الشعبية الذي لا تحلم به السلطة، وتعني فكرة الديموقراطية لديهم الاستقرار والامان لذاته. وأخيراً، انهم يقدمون خدمات اجتماعية للعاطلين عن العمل، وخدمات صحية لمن لا يتمتع بتأمين وللفقراء، وتعليماً علمانياً لائقاً لجيل جديد من الفلسطينيين الذين يجب ان يُعلّموا حقائق العالم الحديث، وليس فقط القيمة الفريدة للعالم القديم. ومن اجل برامج كهذه تثبّت المبادرة الفلسطينية الوطنية ان التخلص من الاحتلال هو الطريق الوحيد الى أمام، وانه لتحقيق ذلك ينبغي ان تُنتخب بحرية قيادة موحدة وطنية تمثيلية كي تحل مكان الاعوان، والاشياء البالية، والعجز الذي اُبتلي به الزعماء الفلسطينيون على مدى القرن الماضي.
إذا احترمنا انفسنا كعرب واميركيين، وادركنا الكرامة الحقيقية لكفاحنا وعدالته، عندذاك فقط يمكن ان نقدّر لماذا، على رغم منا تقريباً، شعرت هذه الكثرة من الناس في ارجاء العالم، ومن ضمنها راشيل كوري والشابان اللذان اُصيبا بجروح معها وينتميان الى حركة التضامن العالمية، توم هرندال وبرايان ايفري، ان بامكانها التعبير عن التضامن معنا.
اختم بالاشارة الى مفارقة اخيرة. اليس من المدهش ان تتجلى كل مؤشرات التضامن الشعبي الذي تلقاه فلسطين والعرب من دون أي مؤشر مشابه الى التضامن ومشاعر الكرامة تجاه انفسنا، وان ينظر الآخرون الينا باعجاب واحترام اكثر مما نفعل نحن؟ الم يحن الوقت لأن نرتقي الى مستوى مكانتنا ونتأكد من ان ممثلينا هنا وفي أماكن اخرى يدركون، كخطوة اولى، انهم يكافحون من أجل قضية عادلة ونبيلة، وانه لا يوجد اطلاقاً ما يستوجب الاعتذار عنه او الخجل بشأنه؟ على العكس تماماً، ينبغي ان يكونوا فخورين بما فعله شعبهم وفخورين ايضاً بتمثيله.