مسرحية كوندوليزا: رضي الممثلون وغضب الجمهور / بقلم بلال الحسن*

شهد الجمهور في تل أبيب ورام الله عرضاً مسرحياً مشوقاً توالت فيه المناظر كما يلي:

المشهد الأول: كوندوليزا رايس في واشنطن، تستعد للقدوم إلى الشرق الأوسط، لتساهم في حل أعقد مشكلة دولية، هي مشكلة الصراع العربي، الإسرائيلي. ومن هناك بدأت تواجه صراعاً حاداً، صراعاً أمريكياً داخلياً جول كيفية التعامل مع هذه القضية، هي، وباعتبارها وزيرة الخارجية، لها رأي في الموضوع يقول بضرورة إبقاء كل خيارات النقاش مفتوحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قبل وأثناء وبعد انعقاد مؤتمر الخريف الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش.
وثمة شخص آخر يقف لها بالمرصاد هو (أليوت أبرامز) مستشار الرئيس، يعارضها ويختلف معها، ويفضل عدم مناقشة قضايا ا لحل النهائي في المؤتمر المنشود، وتحديداً ملفات اللاجئين والقدس والحدود. وتصل أصداء هذا الخلاف إلى الرئيس بوش، ويعرف به طبعاً إيهود أولمرت في إسرائيل، ويعرف أولمرت أن له سنداً في البيت الأبيض، قادراً على الهمس في أذن الرئيس، فيستعد سلفاً لرفض آرائها، ويشعر بالأمان إذا ما عارضها أو اختلف معها.
المشهد الثاني: تصعد كوندوليزا إلى الطائرة الخاصة التي ستنقلها من هدوء واشنطن إلى صخب الشرق الأوسطوحولها المستشارون والمساعدون والصحافيونى المقربون. تختلي بنفسها لتفكر بهدوء، إنها تعرف الآن حدود ما يريد سيد البيت الأبيض أن تبقى الأمور في نطاقه.

وهي تعرف أيضاً، وربما أكثر من اللازم ما يطلبه الفلسطينيون وما يرفضه الإسرائيليون، ولا بد إذ من مخرج يبدوا معه أن الأمور تسير إلى الأمام بينما هي تراوح في مكانها. تفكر وتفكر، ثم تجد حلاً لغوياً بارعاً- تمسك قلماً وورقة وتكتب سلسلة من الشعارات:
الشعار الأول: المؤتمر مصيري وجاد، وسيتناول جميع القضايا الأساسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الشعار الثاني: هدف زيارتي حث الطرفين على التوصل إلى اتفاق حول أسس المفاوضات لإقامة دولة فلسطينية بأسرع ما يمكن.
الشعار الثالث: لا أحد يريد أن يحضر مؤتمراً لسماع الخطب، بل نريد أن نحقق السلام بين الطرفين.
الشعار الرابع: لا  يكفي الاستمرار بالقول إننا نريد حلاص على أساس الدولتين فقط، بل يجي أن نعمل باتحاه تحقيق ذلك. وهنا تتوقف ... وتتأمل... وتفكر... ثم تعيد صياغة الجملة الأخيرة من الشعار وتصبح كما يلي: يجب أن نعمل باتجاه "تضييق الفجورة".

المشهد الثالث: تصل كوندوليزا إلى إسرائيل، ويتم استقبالها ببرود، وتفهم من ذلك البرود فوراً أن (أليوت أبرامز) قد اتصل مع ألمرت، وأطلعه على الأجواء في البيت الأبيض، ونصحه، ربما، أن يبادر إلى الإتصال مع الرئيس بوش شارحاً له متابعة الداخلية، فيطمئنه بوش، ويفهم ألمرت فوراً أنه يستطيع أن يرفض أي اقتراح تقدمه كوندوليزا ولا يعجبه.

ولكن أولمرت رجل لبق أيضاً وه ويعرف أنه لا يجوز التصادم المباشر مع رئيسة الدبلوماسية الأمريكية، فيلجأ إلى مساعديه ليلتقوا بها أولاً، وليشرحوا لها بالوضوح الكافي، حدود ما يستطيع أولمرت أن بوافق عليه.

تتولى المهمة الأولى تسيفي ليفني، وزيرة خارجية إسرائيل، فتقول لها بما هو أكثر من الوضوح، ومن دون استعمال كلمة نرفض: إن إسرائيل غير معنية في خلق توقعات مبالغ بها من المؤتمر، من خلال بحث قضايا الحدود والقدس واللاجئين، لأنه ما تزال هناك فجوة واسعة بين رغبة أبو مازن وبين قدرته على أرض الواقع، وتقول لها: نحن معنيون بمساعدة الولايات المتحدة، من أجل تأييد للمؤتمر في أوساطدول عربية أخرى.

وتقول لها: أقترح أن تتركز أبحاث القمة في قضايا اقتصادية، وفي بناء أجهزة السلطة الفلسطينية، وفي بناء أجهزة الأمن، وفي تكثييف تعاونها مع  أجهزة الأمن الإسرائيلية. وتبلغها أيضاً أن إسرائيل اتخذت اليوم قراراً باعتبار قطاع غزة "كيانا ًمعادياً"، وتتذاكا كونداليزا وترد قائلة إن واشنطن أيضاً تعتبر "حركة حماس" حركة معادية.

ثم تنتقل كوندوليزا وهي تتهادا، من مكتب ليفني إلى مكتب إيهود باراك وزير الدفاع. يستقبلها باراك بنعومة أقرب إلى نعومة النساء، فيلفت ذلك نظرها، وتستعرض في مخيلتها كيف أنه رجل قاتل، لا يصدر أوامر القتل إنما يمارس القتل بيديه، وأنه فعل ذلك في تونس وبيروت، وأن نعومة النساء في شخصيته هي نزعة لإخفاء قسوة القتل في داخله.

ولكنها كامرأة قوية، تشيح بنظرها عن كل ذلك، وتستعد للسماع. وهنا يعرض عليها باراك خطة لتسهيل حياة الفلسطينيين اليومية، وحسب طلب سابق منها. ولكن ما يلفت نظرها، أن كل بند في الخطة يبدأ بكلمة "سندرس".

يقول لها باراك: إسرائيل على استعداد لدراسة نشر قوات، شرطة فلسطينية في مدينة واحدة أو في مدينتين من مدن الضفة الغربية، وخلال ساعات النهار فقط (ويبقى الليل مباحاً لقوات الأمن الإسرائيلية). يقول لها باراك: سنزيل 24 حاجزاً (من أصل أكثر من 400 حاجز) لتسهيل تنقل الفلسطينيين، ثم ندرس زيادة هذا العدد حسب تطور الوضع الأمني. ويقول لها باراك: سندرس في المستقبل زيادة التنسيق مع قوات الأمن الفلسطينية، بحسب الوضع الأمني على الأرض.

تشعر كوندوليزا بخيبة أمل. تسيفي ليفني قلصت أمامها أفق العمل السياسي، وإيهود باراك قلص أمامها أفق العمل المعيشي والأمني، وعلى أساس عملية التقليص هذه، عليها أن تذهب لسماع (طموحات) الفلسطينيين.

المشهد الرابع:

تذكرت رايس بلمحة سريعة، وهي تدخل إلى قاعة الاجتماع مع الرئيس محمود عباس، كل التصريحات المتشائمة التي أدلى بها قبل وصولها حول مؤتمر السلام المنشود. تذكرت أنه توقع فشل المؤتمر، أو حتى عدم انعقاده. اجتمعا... وكانت المعلومات شحيحة عما دار في الاجتماع، ثم مضيا معاً إلى مؤتمر صحافي.

وهنا كانت المفاجأة، فقد تصرف الرئيس عباس حسب القاعدة الذهبية القائلة بأنه (لا يجوز إغضاب أميركا)، ولذلك بادر إلى تقديم جواب على الأسئلة الثلاث الغامضة والتي سبق له أن أعلنها بنفسه (موعد المؤتمر، من سيدعى إليه، هدفه ومضمونه)، وإذ به يقول: المؤتمر الدولي سيعقد في منتصف (تشرين الثاني المقبل. وقال: إن الوضع غامض بالنسبة لموقف الدول العربية من المؤتمر، ويجب توضيح الكثير من القضايا من قبل الداعين إلى المؤتمر، وعندها أعتقد، ولا أجزم، أن هذه الدول ستحضر المؤتمر.

وقال: إن هذف المؤتمر وجدول أعماله هو إقامة الدولة الفلسطينية. وهكذا بدت الأمور من خلال تصريحات عباس وكأنها تسير نحو الحل، فقد تم تحديد موعد المؤتمر، وتم تحديد هدفه، وبقي (غموض بناء؟؟) حول من سيحضره من الدول العربية.

تقدمت كوندوليزا إلى المنصة لتتحدث. تذكرت صراعات واشنطن. وارتسمت أمامها الشعارات الأربعة التي صاغتها في الطائرة، واستعادت شريط الأقوال التي سمعتها من الجميع، ثم خلطت كل ذلك في رأسها (حسب تعاليم الفوضى البناءة)، وقالت: أنها ستعمل على أن يكون المؤتمر المنشود جدياً وفي صلب الموضوع، وأن لا يكون مظهرياً. سئلت ما هي قضاياه الجوهرية؟ أجابت: القضايا التي تحتاج إلى حل بين الجانبين. سئلت عن الوثيقة الختامية التي سيتبناها المؤتمر؟ قالت هذا متروك للطرفين للعمل عليه. وواشنطن ستساعد في تذلي الصعاب، واشنطن ستساعد الطرفين، على التوصل إلى تفاهم مشترك.

ثم تذكرت أنها وزيرة دولة عظمى فقالت بنبرة خطابية حاسمة: إن هدف المؤتمر هو إطلاق مفاوضات جدية تهدف إلى قيام دولة فلسطينية.

وهنا أسدل الستار معلناً انتهاء عرض المسرحية. وخرج جميع الممثلين من الكواليس نحو خشبة المسرح، راضين عن أدائهم.

ولكن همهم غاضبة سمعت في أوساط المتفرجين، بعد أن تم إطفاء المايكرفونات حتى لا يسمعها أحد.

* نشرت المقال في صحيفة القدس، بتاريخ 24/9/2007 .