كلمة د. مصطفى البرغوثي في حفل تأبين

الدكتور حيد عبد الشافي رئيس ومؤسس المبادرة الوطنية

د. مصطفى البرغوثي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتـه،
أيها الأخوة والأخوات، اسمحوا لي أن احييكم واشكركم على مشاركتكم لنا في احياء ذكرى المناضل والقائد التاريخي د. حيدر عبد الشافي.

وأن أوجه الشكر للأخ الرئيس أبو مازن وممثله الرفيق تيسير خالد وممثلي القوى الوطنية والاسلامية والسلك الدبلوماسي والاخوة سفراء وممثلي الدول العربية الشقيقة والمؤسسات الحكومية والأهلية والمجتمع المدني، ولكافة الاخوة والاخوات الذين لبوا النداء للمشاركة في هذا الحفل.

اليوم/ نجتمع لنتذكر معا واحداً من أعظم الفلسطينيين الذين انجبهم شعبنــا

إسمه صار رمزاً لفلسطين عندما شق طريقه الى مدريد ليخاطب العالم بنبض وعزة وكرامة وشموخ كل فلسطيني وفلسطينية

نضاله وتضحيته غدت المعبّر عن عدالة الحق الفلسطيني

أما حياته وسيرته فقد  كانت وما زالت نبراسا للاستقامة والنزاهة والترفع عن صغائر الامور

كان وطنيا حتى النخاع وإنساناً حنوناً بكل اعماقه، ومتواضعا كما يجب ان يتواضع القائد الحقيقي ،

وملتصقا بالناس وبهمومهم بكل جوارحه

حياة أبي خالد ووطنيته تجسد تاريخ شعبنا الحديث .

فقد كان من أوائل مؤسسي منظمة التحرير، وعضو لجنتها التنفيذية الاولى.

وكان مؤسسا ورئيساً للمجلس التشريعي الفلسطيني الاول

وكان قائداً للجبهة الوطنية في قطاع غزة، وللجان التوجيه الوطنية وللجبهة الوطنية الفلسطينية في السبعينات، وللقيادة الموحدة خلال الانتفاضة الاولى، ومن ثم كان مؤسساً ورئيساً للمبادرة الوطنية الفلسطينية.

كان عريقاً، ولكن فكره لم يتوقف عن التطور والابداع والتجديد حتى آخر لحظات حياته.

ولم يتكيء على منجزات الماضي أبداً، بل كان في طليعة التجديد فكراً، وانتماءاً ، والتزاماً وطنياً.

ولا يجوز في هذا المجال نفي خياراته، بل الامثل التمعن فيها وربما التعلم منها، فقد عبرت جميعها عن تواصل متين لالتزام وتمسك وطني حازم وفكر تقدمي رائد، واصرار وتفاني على الديمقراطية.

أبو خالد كان مرناً وفي نفس الوقت وطنياً صلباً لا يقبل المساومة على حقوق شعبه.

ولذلك قبل ان يقود وفد فلسطين لمدريد، ورفض دخول قاعة التفاوض في واشنطن ما لم يعترف بالوفد الفلسطيني، ورفض توقيع أي اتفاق ما لم يتم اولاً تجميد كل النشاط الاستيطاني، ثم انسحب من المفاوضات عندما خرقت اصولها. وكم كان محقاً، فها نحن نرى بعد اربعة عشر عاماً من اوسلو الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا لتفاوض غير مدروس وغير حازم وغير صحيح. ولاتفاق صار فخاً للشعب الفلسطيني ولقيادته، وانتج اتساعا في المستوطنات عدداً وسكاناً ومساحة بنسبة لا تقل 100%، واحدث أعمق انقسام ما زلنا نعاني من جراحه في صفوف شعبنا.

ولذلك رفض حيدر عبد الشافي اتفاق اوسلو....وكل نمط الاتفاقات الجزئية الانتقالية التي غدت وسيلة اسرائيل لتغطية مواصلة فرض أمرها الواقع على الارض.

فضله الرئيس الراحل ياسر عرفات لقيادة وفد التفاوض، لانه عرف انه مستقيم كحد السيف، ولا يطعن من الخلف، وسيكون سداً في وجه محاولات الاسرائيليين وأطراف دولية عديدة للالتفاف على منظمة التحرير وخلق قيادة بديلة لها، وكم كان جديراً بان يقابل بالمثـل.

نقول ذلك ، اليوم ونحن نرى محاولات لتكرار مآسي الماضي، باتفاقات بائسة جديدة، وبمحاولات تصفية قضية فلسطين، وتحويل فكرة الدولة المستقلة الى كانتونات وجيتوات ومعازل. ولجعل جدار الفصل العنصري حدود "دولة الحدود المؤقتة، وتكريس نظام الابارتهايد والفصل العنصري في فلسطين.

نقول ذلك ، ونشدد ان كل مفاوضات ولقاءات لا تستند الى وحدة وطنية راسخة للشعب الفلسطيني وقيادة وطنية موحدة، ولشروط حازمة....بوقف الاستيطان، ووقف بناء جدار الفصل العنصري.... لن تفيد الا اسرائيل ومحاولاتها تشويه قضيتنا الوطنية ونضال شعبنا باعتباره نضال شعب ضد الاحتلال، من اجل الحرية والاستقلال، وعودة اللاجئين ، ومن اجل حقنا في العيش بكرامة وعدالة.

واذا كان الحديث عن المشاركة في اجتماع انابوليس قد بدأ بطرح قضايا الحل النهائي، ويتدحرج اليوم للانحصار في خارطة طريق جعلتها اسرائيل ميتة وفاشلة، ليتحول الموضوع من انهاء الاحتلال الى البحث عن كيفية مطالبة شعب تحت الاحتلال بتوفير الامن للذين يحتلونه، وهذه سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ البشري، فالأولى ان يعيد الجميع حساباتهم ومشاركتهم في هذا الاجتماع قبل ان يلقى بفشل انابوليس على عاتق الفلسطينيين كما القي عبء فشل كامب ديفيد على كاهلهم من قبـل.

ولعلنا نقتدي هنا بمنهج القائد حيدر عبد الشافي ونحدد شروطاً واضحة للمشاركة: وقف فوري للأنشطة الاستيطانية، ووقف لبناء جدار الفصل العنصري تمهيداً لازالته وتراجع اسرائيل عن اعلان قطاع غزة منطقة معادية وعن التخطيط لاجتياح شامل له، وجدول زمني لانهاء قضايا الحل النهائي. والا فماذا سيكون مذاق مفاوضات السلام ان ترافقت مع ارتكاب اسرائيل لمجزرة جديدة ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة.

حيدر عبد الشافي كان دون منازع... رجل الوحدة الوطنية، ساهم في تأسيس حركة البناء الديمقراطي ومن ثم حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية لكنه علمنا رفض التعصب والفئوية وعلمنا ضرورة تغليب المصلحة الوطنية على كل المصالح الحزبية والفئوية – ضيقة الافـق.

كان من مؤسسي منظمة التحرير، وكان ايضا صاحب الشعار الشهير ..... القيادة الوطنية الموحدة....
لانه في الحالتين كان يدرك بعمق الحقيقة الفطرية، بأن شعبنا منقسم على نفسه، وحركة وطنية باستراتيجيات متضاربة، ودون رؤية موحدة لا تستطيع ان تنتصر.

وصاغ معنا في المبادرة الوطنية، الاستراتيجية المقترحة للشعب الفلسطيني التي تجمع بين النضال الشعبي الجماهيري وتعزيز الصمود الوطني للبقاء في فلسطين وتكريس الوحدة الوطنية بالترافق مع استنهاض حركة تضامن دولية قوية وفعالة.

لم ير تناقضا بين التعددية السياسية والوحدة الوطنية، ان سمونا بفكر، وقيم عصرية فوق الفئوية والزبائنية التي تمثل نسخة مشوهة وبائسة للعصبوية القبائلية.

ناضل من اجل الوحدة لانه فهم جوهر المشروع الصهيوني الساعي لهزيمتنا عبر شرذمة الشعب الفلسطيني.

شرذمتنا جغرافيا، وشرذمتنا بين داخل وخارج، وشرذمتنا فئويا، وشرذمتنا عائليا، وشرذمتنا بالحواجز والجدار، وبالامتيازات للبعض ، وبالقمع للبعض الاخر.

فهم ان اسرائيل – دولة الاحتلال - لا تحب أي فلسطيني وتريد اضعافنا جميعنا، ولذلك لم يقع يوماً في شباك أوهام الاحتلال ومن يدعمون الاحتلال.

وفي ظروف بؤسنا والغضب من واقعنا رايت الابتسامة العريضة تعود لترتسم على وجهه يوم تشكلت حكومة الوحدة الوطنية، لان ذلك كان كما قال لي ، اقترابا من تحقيق امنيته بالوحدة، ولاسفي لم نستطع ابقاء هذه الابتسامة على وجهه طويلاً....غادرنا وعلى شفتيه....كلماته الاخيرة .....توحدو....توحدو....توحـدو.

عاش حيدر عبد الشافي منافحا بصلابة عن الديمقراطية وحقوق الانسان

ترأس الهيئة المستقلة لحقوق المواطن

وناضل من اجل انتخابات حرة وديمقراطية حقيقية

حاز على اعلى الاصوات في انتخابات 1996، ثم أعاد للشعب الأمانة عندما ادرك ان المجلس لا يستطيع القيام بدوره في مكافحة الفساد وتكريس الديمقراطية.

واليوم عندما تستباح حقوق الانسان الفلسطيني بصورة غير مسبوقة على يد الاحتلال، وبظلم ذوي القربى، وظلم ذوي القربى اشد مضاضة، علينا ان نستلهم نضال حيدر عبد الشافي من اجل الديمقراطية، وسيادة القانون واستقلال القضاء وتحرير الاجهزة الامنية من الفئوية والفصائلية، وفصل السلطات واحترام سيادة القانون... وقواعد المسائلة والشفافية... ومن اجل حرية النواب المعتقلين وحرية الاحد عشر الفاً وستمائة اسير واسيرة.

اولئك الابطال ....الذين يتصدون لبطش وقمع الاحتلال في النقب وعوفر وكل سجن....ومعسكر اعتقال.

نستلهم من حيدر عبد الشافي تشجيعه للناس للرجال والنساء والشباب والاطفال ، بأن يدافعوا عن حقوقهم ولا يقبلوا الاخلال بها، ارضاء لمحتل او مضطهد او لبدائية متعصب او فئوية متكسب او قامع متسلط، وفي اخر ايامه كثيراً ما كان يستذكر والده، وبشكل خاص ما علمه اياه من قول الحق...مهما كان الثمن.

في حياة حيدر عبد الشافي تتجلى دعوات حرية الانسان وحقوقه من فولتير وروسو الى غاندي ومانديلا وبالنسبة له كانت حرية وحقوق المراة معيار تقدم الامم.

وكم نحن بحاجة اليوم لانقاذ ما بنيناه من بنيان ديمقراطي من عصف الاحتلال، واثار الانقسام الداخلي، والاستهتار بالقانون والمؤسسات ومبدأ المسائلة.

الاحتلال الذي ذبح الديمقراطية الفلسطينية مرتين، مرة عام 1976 عندما ابعد واقال وحاول اغتيال رؤساء واعضاء المجالس البلدية، ليس لانهم كانوا في حينها من انصار حماس، بل لانهم رفضوا الالتفاف على منظمة التحرير، وخلق قيادة بديله لها،

ومرة اخرى عام 2006 لان نتائج انتخابات التشريعي لم تعجبه.

وفي الحالتين فان هدف الذبح والاغتيال لم يكن هذا الفصيل او ذاك، بل ارادة الشعب الفلسطيني الحرة المستعصية على التنازل والاستسلام.

بالنسبة لحيدر عبد الشافي وبالنسبة لنا، كانت الديمقراطية وما تزال سلاح مقاومة ماض وفعال لتحقيق اهداف شعبنا ولبناء وحدة وطنية راسخة.

وكم نحن بحاجة اليوم للديمقراطية من اجل اغلاق الابواب في وجه التدخلات الخارجية والعبث بشؤوننا الداخلية، وهي تنهال علينا من كل حدب وصوب، وخصوصاً من اولئك الذين حضنوا ودعموا المشروع الصهيوني ويريدون اليوم تعميق استعمارنا واستعبادنا وتبعيتنا للآخرين، او استخدامنا أداة في لعبة الصراعات الاقليمية.

كم نحن بحاجتها لصون أصالتنا الوطنية واستقلالية فلسطينيتنا من أجل مستقبل أبنائنا وبناتنـا.

لن استطيع مهما حاولت ان اغطي سوى صفحات قليلة من تاريخ عريق صنعه حيدر عبد الشافي،

ولعلي اختتم، بالنموذج الاخلاقي الرفيع الذي مثلته حياته.....

التنزه، والنزاهة وايثار الآخرين، والاستقامة بالفعل قبل القول، والشجاعة الباسلة في قول الحق والحقيقة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية.

طريق الشعوب الناجح تبدأ من التمسك بالقيم الاخلاقية الرفيعة...وتطبيقها. وفي عصر انهيار منظومة القيم...وسواد الفردية.. فان مستقبلنا يرتبط بقدرتنا على اعادة بناء قيم التضحية والعطاء والتفاني والمشاركة  والعمل الشاق والاخلاص والنزاهة ، والمثابــرة.

وكأن ابو خالد يطل علينا الان ببيت شعره المفضل، الاول والاخير...
انما الامم الاخلاق ما بقيت   فان هموا ذهبت اخلاقهم ذهبوا

مئات الالاف الذين ساندهم ابو خالد سيفتقدون لمسته الحانية، ويده المساندة، وسكينته القادرة على تهدئة كل قلق وضيق وخوف.

سيفتقده ليس فقط ابناؤه وكريمته، بل كل الشعب الفلسطيني، ستفتقده هدى الخالدي (عبد الشافي)، تلك المراة البشوشة دوماً والصبورة (الرائعة) والمعطاءة، والسند القوي لمسيرة حيدر عبد الشافي عبر عقود من الزمان والحامية لقراراته ومبدأيته.

وستفتقده غزة في محنتها وفي صمودها لاجتياحات المحتل، سنفتقد طلته الابوية وحكمته.....

لكننا لا نجتمع اليوم فقط لكي نتذكره، بل لكي نعاهدكم ونعاهد شعبنا على مواصلة دربه ونضاله وعطائه ونموذجه ومبادرته.

فطريقك ابا خالد لم ينتهي ولن ينتهي

حتى نرى فلسطين حرة ، وشعبها يستعيد ما اغتصبه المستعمرون والمحتلون....وطنه، وسعادته وبسمته وازدهاره ومستقبل آمن وعادل لابنائه وبناته.

ولسان حالنا.....
اذا الشعب يوماً اراد الحياة  فلا بد ان يستجيب القدر
ولا بـد لليل ان ينجلــي   ولا بد للقيد ان ينكسـر

ابو خالد.....وداعـا والـى لقـــاء

 الى اللقـاء يوم نحقق الاهداف والمثل التي عشت وناضلت من اجلهـــا.