هذا الاسبوع تصادف الذكرى العشرين للانتفاضة الاولى. هذا التاريخ لن يحتفل به، بالاحرى، في طقس عسكري احتفالي. رئيس الاركان لن ينشر أمر اليوم. احد لن يتلقى وساما أو شارة تقدير متأخرة والمقاتلون لن يرووا قصص البطولة لمراسلي ملاحق الصحف، ومع ذلك الانتفاضة، لمجرد استمرارها وطبيعتها، صممت وجه المجتمع الإسرائيلي وغيرته بقدر لا يقل عن حرب الايام الستة، لا يقل عن حرب يوم الغفران ـ وربما أكثر.
في السنوات التي مرت منذ اندلاع الانتفاضة تحول الجيش الإسرائيلي بالتدريج الى جيش مقاتلين ـ شرطة مهمتهم العسكرية تنطوي على احتكاك عنيف، يومي، مع سكان مدنيين. تأثير هذا التغيير على القدرة القتالية للوحدات المختلفة كان يمكن لنا أن نراه بوضوح في حرب لبنان الثانية. كما أن تأثيرات اخرى للانتفاضة جلية للعيان: الثمن الاقتصادي الهائل. او حقيقة ان إسرائيل والإسرائيليين اصبحوا منبوذين بفضل الاحتلال في دول عديدة في العالم.
ولكن بالذات الثمن الاكبر، الاخطر، الذي دفعه ويدفعه المجتمع الإسرائيلي على الانتفاضة والاحتلال ـ بالذات هذا الثمن خفي. وهو خفي ـ إذ ان هذه هي طبيعة الافساد الاخلاقي. من الصعب قياسه كميا، من الصعب وضع الاصبع عليه، ومع ذلك فانه ينقط دون توقف سما الى الدورة الدموية. الخاصة والعامة على حد سواء.
ينبغي أن نفهم: في المناطق في بداية الانتفاضة، كان كل شئ (تقريبا) مسموحا به. قادة لم يؤهلوا للتنافس مع الوضعية، جنود محبطون وقيادة عليا أصدرت تعليماتها «لتحطيم ايادي وأرجل الثائرين»، حولوا الضفة الغربية وغزة الى منطقة سائبة من ناحية اخلاقية. في هذه المنطقة السائبة كان مسموحا الضرب، الحاق الضرر بالاملاك الخاصة، الاهانة، التعذيب، بل والكذب من اجل التغطية على كل هذه الافعال.
وكانت هذه مجرد البداية. كلما تواصلت واحتدمت الانتفاضة، تم تجاوز المزيد فالمزيد من الحدود ـ وهكذا فان جيلا كاملا من الجنود تعلم كيف ينظر الى الاخر الفلسطيني كمن ليس انسانا. جيل كامل تعلم بان العنف تجاه هذا الاخر يمكنه أن يكون تعسفيا تماما. وليس دوما ينبغي اعطاء الحساب عليه. («لم يوجد خلل في اطلاق نار قتل الطفلة ابنة التاسعة من خانيونس» اعلن الناطق العسكري في كانون الثاني 2006 في صيغة بائسة كشفت، بغير وعي، كم عميقة ومتجذرة عملية نزع الانسانية عن الاخر. لم يوجد خلل؟ في قتل طفلة ابنة التاسعة؟).
وفضلا عن ذلك: خط مباشر يربط بين الافساد الاخلاقي الذي جلبته معها الخدمة في المناطق وبين ظواهر عديدة اجتاحت المجتمع الإسرائيلي في السنوات الاخيرة: العنف في الطرقات. العنف في العائلة. اللامبالاة العامة التي تواجه بها المظالم تجاه مهاجري العمل، تجاه العجائز، تجاه كل من هو ضعيف.
إذ كهذا هو الافساد الاخلاقي: من اللحظة التي اعطيته موطئ قدم في نفسك، من شأنه أن ينتشر ويسيطر عليها جميعها.
على مدى السنين آمن كثيرون وطيبون بان السبيل الى حل الضائقة القيمية التي تبعثها السيطرة في المناطق هو ببساطة الخروج من هناك. دفعة واحدة وانتهينا.
فجاء فك الارتباط عن غزة وأثبت بان هذه ليس بهذه البساطة. نحن متمسكون بهم. وهم متمسكون بنا. مطالبهم عديدة. وكذا مطالبنا. والجدار الامني، مهما كان عاليا، لا يمكنه حقا أن يخلق فصلا في عصر القسام.
ولكن بالذات الاعتراف بان الاحتكاك بين الشعبين من المتوقع ان يواصل مرافقتنا لزمن ما قادم، يؤكد الحاجة الى التصدي للافساد الذي يجلبه معه ـ منذ الان. السعي بالطبع، لانهاء وضع الاحتلال، ولكن في هذه الاثناء تحطيم الصمت ايضا. كشف الشر، التربية. الاعداد. وضع حدود اكثر وضوحا للجنود. وربما ايضا اخراج التحقيقات في افعال المظالم تجاه المدنيين الى معالجة هيئة خارج الجيش الإسرائيلي. لا تقبل بطبيعية كهذه قتل طفلة ابنة تاسعة.
هذا الاسبوع تصادف الذكرى العشرين لاندلاع الانتفاضة. وليس صدفة أن هذا الموعد لن يحتفل به في طقس احتفالي. ينبغي الافتراض بان سلوك جنود الجيش الإسرائيلي تجاه السكان الفلسطينيين في اثناء الانتفاضة الطويلة لن يسجل كفصل لامع في تاريخ الشعب اليهودي. ولكن لا يزال الوقت ليس متأخرا. ليس متأخرا التطلع الى انهاء هذا الفصل وليس متأخرا الخروج من صدمة المعركة الاخلاقية.
روائي إسرائيلي*