بعد ستين عاما.......إسرائيل تتقدم إلى الوراء/ د.مصطفى البرغوثي

هناك مفارقة بارزة تشد الأنظار في الذكرى الستين لما اصطلح الفلسطينيون على تسميته بالنكبة، أو الكارثة،، إلا وهو السباق المحتدم بين الفلسطينيين والإسرائيليين على تسجيل انجازات تدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية.

فقد صنع الفلسطينيون في بيت لحم اكبر مفتاح في العالم ليرمزوا به إلى حق العودة إلى فلسطين، وصنعوا أضخم علم ليرمزوا به إلى حق تقرير المصير المصادر، وكتبوا أطول رسالة احتجاج مناصرة لآلاف الأسرى سجناء الحرية .....الخ.

أما الإسرائيليون فصنعوا ما أرادوه اكبر صحن حمص في العالم، في إشارة رمزية إلى تصميمهم على سرقة الحمص والفلافل من التراث الشعبي الفلسطيني بعد أن صادروا معظم الأرض، أي السطو التاريخ بعد أن أتموا عملية السطو الجغرافيا.

لكل طريقته في الاحتفال أو استذكار هذه الذكرى، ولعل خير ما يمكن قراءته في هذه المناسبة، الكتاب القيم للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي،التطهير العرقي في فلسطين، والذي يفضح بمنهجية علمية وموضوعية دقيقة، زيف الرواية الاسرائيلية لما جرى في أعوام 1947 -1948 ، ويقدم توثيقا دقيقا لما لا يقل عن ثلاثين مجزرة مروعة نفذتها عصابات الهاجانا، وأرغون وشتيرن ضد المدنيين الفلسطينيين، والسياسية المنهجية التي اتبعت لترحيل اكبر عدد ممكن منهم.

وبذلك يضيف بابي تتويجا قيما لمجموعة أعمال تاريخية شارك فيها افي شلايم ووليد الخالدي، وادوارد سعيد وآخرون.

وإذا كانت سابقة التطهير العرقي الأسرع في التاريخ أخفيت معالمها لسنوات طويلة، فان كارثة أطول احتلال في التاريخ البشري الحديث، الذي بدأ عام 1967 للضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، ليست بحاجة إلى بحث أو إثبات، إذ تجاوز الاحتلال الإسرائيلي قبل خمس سنوات سابقة أطول احتلال معروف في عصرنا الحديث، وهو احتلال اليابان لكوريا.

أما التميز القياسي الفريد في نوعه دون منازع فهو ما أنجزته إسرائيل بتحويل الاحتلال إلى نظام الابارتهايد( الفصل العنصري) الأبشع في التاريخ البشري حسب ما وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والوزير اليهودي الأصل في حكومة جنوب إفريقيا الحالية روني كاسرلز. وكلاهما رأيا ما رأيناه على ارض الواقع، ولم تفلح ماكنة التخويف والإرهاب الفكري الإسرائيلية في ردعهما عن قول الحقيقية من منطلق الولاء لحقوق الإنسان والصدق مع النفس بعد تجربة النضال ضد نظام الفصل العنصري الجنوب إفريقي.

نحن نعرف بالطبع أن الرئيس الأمريكي الحالي بوش وكثيرون غيره من قادة دول الغرب يتسابقون لمشاركة إسرائيل احتفالاتها، مغمضين أعينهم عما يجري للفلسطينيين، ولكننا نعرف أيضا أن صورة إسرائيل والانطباع عنها قد تغير سلبيا بشكل جذري على مستوى الشعوب، التي تفلح الحقيقة في الوصول لها، رغم انحياز أدوات الإعلام للرؤية الإسرائيلية. ونعرف كذلك نماذج أخرى للنفاق السياسي في عصرنا منها أن نيلسون مانديلا، الشخصية الأكثر تبجيلا واحتراما في العالم، ما زال موجودا على قائمة الإرهاب التي يحددها الكونغرس الأمريكي، مثله مثل المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا.

وبغض النظر عن النفاق، وتشويه الحقيقية، وخداع النفس، فان حكومات إسرائيل حققت لنفسها موقعا قياسيا في التاريخ الحديث، بجمعها بين أسرع عملية تهجير وأطول احتلال، وأسوأ نظام للفصل العنصري، وبذلك فإنها أساءت إساءة لا تغتفر ليس فقط للشعب الفلسطيني بل ولليهود أنفسهم، ولمعاناتهم واضطهادهم على يد النازية وما سبقها.

وحين يناضل الفلسطينيون ضد الفصل والاضطهاد العنصري، فإنهم أيضا يناضلون من اجل حق أبنائهم المشردين في العودة والعيش في وطنهم بكرامة كسائر شعوب الأرض، ويناضلون في نفس الوقت من اجل حق تقرير المصير المسلوب منهم.

وبعد ستين عاما لا تستطيع المؤسسة الإسرائيلية- مهما حاولت أن تبطل مشروعية نضال الفلسطينيين من اجل الحق الإنساني البسيط والمعترف به في كل مكان وفي كل تشريع دولي، الحق في المساواة وفي الحرية والحقوق والواجبات أسوة بكل شعوب الأرض.

كما لن تتمكن، مهما لقيت من دعم، من إبطال المقولة المشهورة لنيلسون مانديلا، بان نضال الشعب الفلسطيني هو قضية الضمير العالمي الأولى في العالم. ولا يتوقف مؤيدو الاحتلال الإسرائيلي عن الاستغراب من رفض الفلسطينيين الرضوخ رغم ما تلقوه من ضربات، كما يواصلوا التعجب من قوة الاندفاع المتجددة لمناصرة الحقوق الفلسطينية لدى الأجيال الفلسطينية الجديدة بمن فيها من ولدوا وعاشو في الشتات، والذين لا يزيد مرور الوقت إلا عمق إحساسهم بالظلم وانعدام العدالة.

على رغم تعثرنا وانقساماتنا وأخطائنا، وقسوة العالم القريب والبعيد علينا، نسير نحن الفلسطينيين إلى الأمام، محاولين إبقاء جذوة الثقة بالنفس والأمل بالمستقبل، والإيمان بقيم العدالة الإنسانية حية ومضيئة، أما إسرائيل التي أصبحت رابع اكبر مصدر للسلاح في العالم ومالكة 400 رأس نووي وصانعة حروب لا تتوقف ومالكة لاقتصاد انتفخ بنهب أراضي ومياه وعرق جبين الآخرين فإنها تتقدم ولكن إلى الوراء بمعايير العدالة الإنسانية ومنطق التاريخ الذي لم تستطع لي عنقه قوى استعمارية اكبر واعرق من إسرائيل، في الهند والجزائر وجنوب إفريقيا......وبالتأكيد في فلسطين.

 

د. مصطفى البرغوثي

 

الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطيني