الإعلام العربي والغربي والأزمة الاقتصادية العالميةبقلم: د. جورج جقمان

لعل أول ما يلفت النظر في تغطية العديد من وسائل الإعلام العربية والغربية للأزمة الاقتصادية الحالية هو ما هو مسكوت عنه، أو ما هو خاطئ. والنتيجة، وجود مساحة وحيز من التجهيل والضبابية تضع غشاوة على البصر والبصيرة، ولا تسعف القارئ أو المشاهد على فهم ما يحدث، سواء تم ذلك عن قصد أو غير قصد.

هذا لا ينطبق على جميع وسائل الاعلام خاصة بوجود مواقع متعددة ومتنوعة على "الانترنت". ولكن القارئ والمشاهد العادي لا وقت له لمتابعتها أو متابعة معظمها. فالكثيرون يعتمدون على وسائل الاعلام المحلية والعالمية الرئيسية والتي تتمتع "بمصداقية".

ولعل من القلائل الذين كانوا صريحين حول طبيعة النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة، حيث بدأت الأزمة، هو وزير الخزينة الاميركية "بولسون" الذي أجاب على إحد الاسئلة الموجهة له من قبل بعض أعضاء مجلس الشيوخ بالقول: "هذه طبيعة نظامنا الاقتصادي". هذا اشارة صريحة لنوع المشكلة ونوع الحل أو المعالجة الممكنة في هذا الظرف، وإن كانت إجابته موجهة لمن يعلم أصلاً، وهذا ليس ضرورة الجمهور العام في الولايات المتحدة وخارجها.

من النوع الاول المسكوت عنه في وسائل الاعلام والمؤدي لإبقاء الغشاوة على الاعين هو تبعات مطالب لدى الجمهور والعديد من اعضاء مجلس الشيوخ خاصة الجمهوريين، تتلخص في أن لا يدفع "دافع الضرائب" ثمن إنقاذ البنوك والمؤسسات المالية بسبب اخطائها أو جشعها. وكما هو معروف، في النظام الرأسمالي يأتي دخل الحكومة أساساً من الضرائب المتنوعة المجباة، بالتالي، انقاذ هذه المؤسسات عن طريق شرائها من قبل الدولة او اقراضها، يتم بالاموال العامة او اموال دافعي الضرائب.

وتبرز وسائل الاعلام هذه الاحتجاجات والتظلمات، ولكنها لا تقول صراحة للجمهور ما هي تبعات عدم الانقاذ هذا إلا في العموميات. ما هو مسكوت عنه، إلا بالاشارة السريعة، هي الحقيقة البسيطة والواضحة ان ما يسمى "الاقتصاد الوطني" اي اقتصاد البلد، هو في ايد خاصة تسعى أساساً الى الربح، والربح او عدمه هو ما ينمي رأس المال ويخلق الوظائف والاعمال المختلفة. وانكماش رأس المال على مستوى اقتصاد البلد، او افلاس العديد من الشركات والبنوك سيؤدي الى زيادة في البطالة. وفي مجتمع مثل الولايات المتحدة ومعظم الدول الرأسمالية الصناعية، يعيش معظم الناس على الدين من خلال استخدام بطاقات الائتمان. وانحسار مقدرة البنوك على توفير السيولة والاقراض كما هو حاصل الآن، سيطال معظم الناس الذين بدورهم سيرون خلال فترة وجيزة نقصان السيولة بسبب تقليص المبالغ المسموح اقتراضها بواسطة بطاقات الائتمان.

المقصود بكل بساطة ان من يحتج على انقاذ البنوك والشركات المالية له مصلحة مباشرة في انقاذها. فما معنى الاحتجاج اذاً باسم مصالح "دافعي الضرائب" كما يفعل اعضاء الكونغرس رغبة منهم في إعادة انتخاب الجمهوريين او لأسباب اخرى لا تتطرق اليها وسائل الاعلام؟

فيما يتعلق بالانسان العادي الذي يناهض انقاذ البنوك، كان هذا يسمى في الماضي "وعي زائف"، أي عدم فهم طبيعة النظام الرأسمالي في هذه الحالة. اما بخصوص اعضاء الكونغرس المناهضين لهذا الانقاذ، فإنهم منافقون لا غير، لأنهم يعرفون او يفترض انهم يعرفون.

ماذا يعرفون؟ يعرفون ان النظام الرأسمالي يمر بدورات اقتصادية تتخللها ازمات، بعضها كبير وبعضها صغير تبعاً للظرف وإمكانية تدخل الحكومة. ولكن هذه الدورات التي تحمل معها ازمات هي صفة ملازمة لهذا النظام الاقتصادي. الفارق هو عمق وطول الازمة وليس امكانية او عدم امكانية وقوعها. صحيح انه يوجد هنا نقاش حول وجود او عدم وجود تشريعات تحد من الازمات، ولكن هذا بدوره يخضع لتيارات ومدارس اقتصادية لا مجال للدخول فيها الآن. المهم انه يوجد اتفاق بين الدارسين والاقتصاديين ان هذه الدورات ملازمة لهذا النوع من النظام الاقتصادي.

اما النوع الثاني من التجهيل المنتشر في وسائل الاعلام "ذات المصداقية" يكمن في اعطاء معلومات او تحليل خاطئ مثل ما جاء على لسان اكثر من مذيع او "محلل" في وسائل الاعلام. مثلاً يتساءل احدهم: "هل تحولت الولايات التحدة وبريطانيا الى نوع من الاشتراكية تُطعِمِّ بها النظام الرأسمالي"؟ والاشارة هنا الى "تأميم" بعض البنوك والشركات المالية عن طريق شرائها او شراء حصص فيها لغرض انقاذها كما تم.

هذا كلام دون مستوى النقد. فكما ينبغي ان يعرف هؤلاء ان الاشتراكية هي المشاركة في الربح وليس فقط في الخسارة، فقيام الحكومات بشراء بعض البنوك وتحمل خسارتها هو لانقاذ الاقتصاد الخاص، وهي بذلك تشرك دافعي الضرائب بالخسارة وليس بالربح، فعندما تربح هذه المؤسسات لا تؤمم وتبقى في ايد خاصة. والتأميم عند الخسارة هو تعميها على الجميع.

هذه ليست اشتراكية وإنما دعم واضح من قبل الجمهور العام، دافعي الضرائب، للقطاع الخاص في ظل وجود ازمات اقتصادية. هذا هو نفس الجمهور الذي لا يشارك البنوك والشركات المالية في ربحها الا اذا كان رأسمالياً، أي لديه اسهم وحصص فيها.

المعادلة بسيطة وواضحة: الربح يذهب الى الجيب الخاص والخسارة يتحملها الجميع، اما الاسئلة التي يسألها بعض المحللين والمذيعين في الفضائيات حول تحول الولايات المتحدة وبريطانيا ودول اخرى الى نوع من الاشتراكية، فتبقى في خانة الجهل او التجهيل، او البراءة التامة من المعرفة التي يصعب تصور وجودها لديهم.

اذاً، ما هي القضية؟ القضية بكل بساطة ان العديد من وسائل الاعلام الرئيسية "ذات المصداقية" تتعمد او تخشى ابراز المشكلة الحقيقية، وهي كما اشرت سابقاً طبيعة النظام الرأسمالي ودوراته الاقتصادية التي ترافقها ازمات، حتى لو سلمنا بوجود دور للحكومات في وضع قيود معينة على شكل تشريعات لمنع او تخفيف حدوث ازمات طاحنة، وهو ما قد تلام عليه بعض الحكومات.

لكن هنا يوجد اختلاف بين حكومة وأخرى تبعاً للتوجهات الاديولوجية. مثلاً ادارة الجمهوريين في الولايات المتحدة (والمرادف لها في بريطانيا حزب المحافظين) تعمل بشكل اوضح لصالح رأس المال، من الديمقراطيين، وإن كان الفارق ليس كبيراً نظراً لأن الاقتصاد "الوطني" هو اقتصاد خاص، الفارق هو في ادخال او عدم ادخال "شبكات امان" من نوع التأمين الصحي ومخصصات البطالة والتقاعد وما شابه، التي تهدف الى تخفيف الصدمات ودرجة الافقار وليس الى ازالة الفقر.

جوهر النظام الرأسمالي يبقى نفسه: "التنمية" وخلق فرص العمل هو مرهون بتنمية رأس المال، القطاع الخاص الذي إن ربح اكثر يخلق فرص عمل اضافية عن طريق إعادة استثمار رأس المال وتوظيفه، وإن خسر، يستغني عن العمل المأجور ومن ثم البطالة.

هذه هي المعادلة: بسيطة وواضحة ومعروفة منذ ما يزيد على مائة وخمسين عاماً. لا شيء جديد سوى عمق الازمة الحالية. اما ما يقوله العديد من المعلقين والمحللين في وسائل الاعلام ان المشكلة تكمن في "الجشع الانساني"، ما هو الا هراء، فقط لا غير. إن الجشع الانساني لا يبرز او يظهر الا عندما يسمح له النظام الاقتصادي بذلك. هذا ايضاً من جملة ما هو مسكوت عنه.

 

ü جامعة بيرزيت.