رجب ابو سرية

بهدوء وروية، وخارج دائرة واطار التوظيف السياسي الفج، ودونما تحريض قد يكون من شأنه التأثير السلبي على جهود المصالحة، يجب معالجة الموقف الفلسطيني ازاء تقرير الأمم المتحدة حول الحرب الاسرائيلية التي جرت ضد غزة مطلع العام الجاري، وذلك بهدف معرفة حقيقة ما جرى أولاً، ثم اتخاذ القرارات المناسبة، في كل الأحوال.

اولاً وقبل كل شيء، وبحكم ان هناك موقفاً أجمعت عليه القوى الفلسطينية المختلفة ضد تأجيل مناقشة التقرير حتى آذار القادم، لا بد من الفحص السريع، ان كانت هناك امكانية ما زالت قائمة للعودة عن التأجيل، ومن ثم الوقوف عند تفاصيل وحقيقة الموقف لمعالجة مظاهر الخلل، أو الخطأ أو حتى الجرم ان كانت قد حدثت، وهنا وبشكل مسبق. يمكن القول ان أحداً لا يقبل ان يجتهد أي مسؤول سياسي في جوهر موقف من هذا المستوى.

من الواضح ومنذ البداية ان الرد الرسمي اظهر مستوى من الارتباك، يشير إلى إما ان الموقف في المنظمة الدولية كان مرتجلاً، أو ان المؤسسة الرسمية لم تكن تدرك حجم الغضب الشعبي الذي يمكن ان ينجم عن مثل قرار كهذا، فبعد ان أعلن الناطق باسم الرئاسة ان السلطة لم تكن لها يد في قرار التأجيل، عادت المؤسسة ذاتها للاعلان عن قرار تشكيل لجنة التحقيق ومن قبل اعلى سلطة فلسطينية (م.ت.ف)، فيما كانت حركة فتح تعلن رفضها وبالتالي تنصلها مما جرى، على الرغم من ان السفير الفلسطيني في جنيف، هو كادر فتحاوي، ورغم ان ذلك يعني مسؤوليته الاولى إزاء الخارجية الفلسطينية، وليس امام الحركة، لكن مجمل الموقف يشير الى "مستوى" الهشاشة في العلاقات الداخلية، الناجم عن الانقسام، ونتيجته التي عطلت عمل مؤسسات السلطات المختلفة، ونعني بذلك التشريع والقضاء.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو انه اذا افترضنا جدلاً ان السفير خريشة، قد شارك المجموعة العربية والاسلامية، في الموافقة على مشروع قرار التأجيل لأسباب تعود الى ضغوط دولية، او حتى ذات طبيعة فنية / سياسية، بهدف توفير الاجماع الدولي، حتى يصدر القرار ويكون نافذاً وفاعلاً وذا قيمة، ينجم عنه ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين، حتى لو تضمن ذلك "التضحية" ببعض القيادات الفلسطينية في غزة، التي يجرمها التقرير أيضاً، فان من الطبيعي، ان توضح الخارجية، ومن ثم الحكومة، التي يفترض فيها ان توضح ما حدث - بصورة أولية- على الأقل، وما يعنيه ذلك من انها تتحمل مسؤولية ما جرى، بغض النظر عن الموقف النهائي والذي يجب ان يكون بعد اعلان لجنة التحقيق نتيجة التحقيق.

هنا - الفصائل الفلسطينية - بالدرجة الاولى، ولأنها باتت تتحمل مسؤوليته سياسية مضاعفة، ومباشرة، جوهرها مراقبة أداء السلطة التنفيذية بكل مستوياتها، مع تعطل عمل المجلس التشريعي بشكل كامل، والوطني بشكل جزئي - أو مؤجل- والقضاء إلى حدود بعيدة، الفصائل هنا يجب ان تتابع بجدية وان تصر على انجاح واسناد لجنة التحقيق، حتى لا تتحول اللجنة كمثل كل اللجان التي سبق تشكيلها في مثل مناسبات كهذه إلى أدوات لامتصاص الغضب العابر، والذي بعد أيام ينتهي بحيث لا يعود أحد يتحدث عن الأمر ولا يهتم به.

العين - الثالثة- ان صح التعبير يجب ان تكون دائماً باتجاه تحقيق المصلحة العامة، وتعزيز الشفافية السياسية والادارية، وتعميق مستوى المساءلة والمحاسبة، بهدف تعميق أجواء الديمقراطية، لأن من شأن حدوث مثل هذه "المطبات" ان توظف خاصة في ظل "الصراع الثنائي" الذي ما زال دائراً في الواقع الفلسطيني بطريقة تسجيل النقاط، هذا الطرف على ذاك، ولنا في تجربة ملفات الفساد وسوء الادارة تجربة ماثلة، حيث وبعد اقتراب فترة التشريعي الثانية على الانتهاء، لم يصدر عنه اي قرار من شأنه ان يفتح تلك الملفات ويحيلها إلى القضاء.

والفصائل مجتمعة عليها ان تتوقف عن سياسة تسجيل المواقف العابرة، وان تتحول الى ممارسة سياسة مثابرة، ضد الارتجال او الفردية، وحتى ممارسة السلطة التنفيذية دون قيود او رقابة، فرغم ان كل الفصائل دونما استثناء قد اعلنت رفضها قرار تأجيل البت في التقرير الأممي، وأدانت - سلفاً- شبه التورط الفلسطيني في ذلك القرار، الاّ انه يمكن التوقع ان معظمها قد يكتفي بهذا الموقف، لانه يعتقد بذلك انه قد نال رضا وحب الناس، ثم كفى الله المؤمنين شر القتال!

معركة الديمقراطية واقامة الحكم الصالح، ونظام الشفافية والمساءلة، هي معركة طويلة ومتواصلة وشاقة، ولا تتجزأ، ارتباطاً بالجهة التنفيذية المقابلة، واذا كان الفلسطينيون مجتمعين الآن يطالبون المنظمة الدولية باصدار قرار من شأنه اصدار - ربما - أحكام بملاحقة مجرمي الحرب على غزة، فان الفلسطينيين عليهم ان يقبلوا دون تردد ما جاء بالتقرير، بما في ذلك البدء بالتحقيق الداخلي، للوقوف عند حقيقة ارتكاب بعضهم جرائم حرب، أولاً بحق الفلسطينيين ثم التعاون مع القضاء الدولي لاحقاً في ان تأخذ العدالة مجراها، أنى تكون النتيجة.

على انه لا يمكن الاّ ان ندرك تعقيد الموقف الداخلي، ذلك ان الوصول الى الوضع الداخلي السليم، والمثالي، يمر أولاً وقبل كل شيء بانهاء حالة الانقسام، واقامة نظام سياسي متعدد، يكفل التداول السلمي للسلطة، لذا فان "التوافق" على معالجة ما حدث في جنيف، والوقوف عند الحقيقة والاحتكام إلى مبدأ المحاسبة، أياً يكن المسؤول عن الخلل أو الخطأ، وبحجم محاسبة يتناسب مع حجم الخطأ - والذي ربما يكون ذا علاقة بكيفية اتخاذ القرار في واحدة من أهم أدوات السلطة التنفيذية - الخارجية- من شأنه ان يقطع الطريق على تأثير سلبي محتمل على جهود المصالحة.

قد يكون بالمناسبة، هذا هو الهدف الذي يسعى اليه أعداء المصالحة - خارجيين وداخليين- لذا لا بد من تفويت هذا الاحتمال والاصرار على انجاح محطة الثاني والعشرين من الجاري بابرام اتفاق المصالحة، والولوج في تشييد حالة داخلية منظمة بشكل فعال، لأنه ثبت بالملموس، انه لا يمكن ان يمارس الفلسطينيون معاركهم السياسية والميدانية مع أعدائهم - خاصة الاسرائيليين، ليس فقط وهم منقسمون، ولكن أيضاً، دون "نظام" فعال يجعل من التعدد مصدر قوة وليس مصدر ضعف.

 

Rajab22@hotmail.com

 

رجب ابو سرية

رجب ابو سرية