بقلم : مهند عبد الحميد

 

أحدث تأجيل البحث في تقرير غولدستون بموافقة رسمية فلسطينية هزة عميقة مؤلمة في الداخل الفلسطيني، هزة ما زالت تداعياتها تتفاعل وتطرح أسئلة حول آلية اتخاذ القرار، وحول الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها. "الموافقة الفلسطينية" على تأجيل طرح تقرير يسعى الى تطبيق العدالة ونقل إسرائيل من دولة فوق القانون الى دولة تحاسب على انتهاك القانون. هذه الموافقة هي أصعب وأخطر موقف يحدث حتى الآن. ما حدث لا يندرج في إطار ثنائيات الاعتدال التشدد، الرفض والقبول، الايديولوجيا والعقلانية. ما حدث يمس مبدأ حقوق الإنسان (الفرد والجماعة)، ويهدد أهم عنصر قوة معنوياً وأخلاقياً يمتلكه شعب أعزل في مواجهة غطرسة القوة، بل يمس أهم عنصر استقطاب والتقاء وتوحد بين الشعب الفلسطيني وكل القوى المناهضة للحرب والاحتلال والعنصرية وعجرفة القوة، تلك القوى الداعمة لحقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. إن خسارة هذا العنصر (جوهر نضالنا) سيفكك وحدتنا الوطنية كما لم تتفكك من قبل وسيفصلنا عن العالم وستخسر قضيتنا المشهود لها بعدالة مطالبها مرة واحدة وإلى غير رجعة.

لهذه الأسباب مجتمعة تحتاج معالجة "الموافقة على التأجيل" إلى جرأة وحزم وحكمة وسرعة في التصويب، وعدم السماح بالاستخفاف بالعقول في سوق التبريرات، وعدم السماح بتعظيم الخسائر الفلسطينية ولا بفقدان الاتجاه والبوصلة معاً. إن الردود الواسعة جدا التي عبرت عن رفض المشاركة الرسمية الفلسطينية في تأجيل التصويت على تقرير غولدستون، تعبر عن لياقة سياسية ووطنية وقدرة على التدخل مجتمعياً ونخبوياً ومؤسسياً عند الحاجة وضد أي تجاوز للخط الأحمر. هذا يعني امتلاك ديناميات التدخل في هذه المرة وعند الحاجة او عند حدوث الازمة، هذا يعني أن التدخل والمساءلة والمحاسبة وايجاد الحل أمر ممكن، ولكن أي حل؟.

بعض الردود التي تطرح قلب الطاولة، وتنطلق من "عدم شرعية" اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني واللجنة المركزية لفتح والسلطة، تطرح حلاً عدمياً يكون الخاسر الوحيد فيه هو الشعب الفلسطيني. ردود أخرى كل ما يهمها هو تسجيل مواقف والانطلاق من هذا الخطأ الشنيع للكسب الفئوي بمعزل عن معالجة حقيقية لما حدث سواء عبر محاسبة المسؤولين أو من خلال وضع ضوابط وحدود وآلية جديدة لاتخاذ القرار، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية وديمقراطية مستقلة عن كل وصاية.

في الازمات ونحن نعيش أزمة حقيقية تطرح الاسئلة الصعبة، ويعاد قراءة المشهد من مختلف الزوايا. ومن المفيد هنا إعادة قراءة استراتيجيتنا للخلاص من الاحتلال وإقامة الدولة على ضوء المواقف الدولية. لقد أخفقت إدارة الرئيس أوباما ومعها الرباعية الدولية في إلزام حكومة نتنياهو بتجميد الاستيطان، والتجميد منصوص عليه في خارطة الطريق. لم تجد إدارة أوباما حلا للتعنت والتحدي الاسرائيلي غير التسليم به، والتوقف عن مطالبة نتنياهو وليبرمان بوقف الاستيطان. خلافاً لذلك، انتقل الرئيس أوباما الى موقف نقيض عندما دعا "كل الاطراف" الذهاب الى المفاوضات دون شروط مسبقة. وهذا يعني ذهاب الطرف الفلسطيني الى المفاوضات في ظل استيطان زاحف يدمر مقومات الدولة الفلسطينية الموعودة. وعوضا عن ممارسة الضغط على حكومة نتنياهو التي رفضت الامتثال لارادة المجتمع الدولي، ضغطت الادارة الاميركية على الرئيس عباس لحضور قمة واشنطن مع نتنياهو في ظل إعلان الاخير عن تدشين مستعمرة جديدة في ضواحي مدينة القدس والسماح بإضافة مئات من الوحدات السكنية داخل المستعمرات المقامة على الاراضي الفلسطينية. من يستطيع منح هذه العملية السياسية ثقة؟ من يستطيع بناء أوهام حول قدرة الادارة الاميركية ومعها الرباعية الدولية على ايجاد حل سياسي ينهي الاحتلال ويقيم دولة فلسطينية؟ الاستنتاج الذي لا يختلف عليه اثنان هو خضوع دولي لارادة أقصى اليمين الاسرائيلي، وتأييد بل والمشاركة في فرض حل يصممه تحالف (نتنياهو ليبرمان باراك) هو حل الفصل العنصري. والمشاركة تعني ممارسة الضغط على الطرف الفلسطيني وفرض الحل عليه ترهيبا وترغيبا.

منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000، تبنت المؤسسة الاسرائيلية الامنية والسياسية فرض الحل من طرف واحد، بما يحقق أطماعها الكولونيالية وشرعت في بناء جدار الفصل العنصري، وخرجت من قطاع غزة وحولته الى معسكر اعتقال كبير( بنتوستان)، وانتهت من إقامة بنية تحتية لهذا الحل في الضفة الغربية قطعتها وحولتها الى (بنتوستونات). الرئيس بوش دعم بكل قوة الحل الاسرائيلي وغلف تطابقه مع الحل الاسرائيلي بالحديث عن حل الدولتين، جاء الرئيس أوباما ليغير من المعادلة هكذا قال في خطاب القاهرة وفي مقابلاته الصحافية، لكنه سرعان ما تراجع عن مواقفه وكان آخرها الضغط على القيادة الفسطينية للتفاوض مع استمرار الاستيطان، والضغط لتأجيل رفع تقرير غولدستون الى المحكمة الدولية. ماذا بقي في جعبة الادارة غير الضغوط على الطرف الاضعف.

السؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت الادارة الاميركية شريكاً في فرض الحل الاسرائيلي، ما جدوى الرهان على الدور الاميركي والامتثال لنصائح أوباما وميتشل وكلينتون؟ ما جدوى الذهاب لطاولة المفاوضات؟ هل الثمن هو الدعم المالي واللوجستي؟ ان الذهاب للمفاوضات وقبول الدعم المالي والانمائي سيكون مقابل تمرير حل الفصل العنصري. وهذا ثمن باهض لانه يعني إجهاض الحقوق الوطنية المشروعة، هذا هزيمة منكرة لمشروعنا الوطني، عدا قطع الطريق على الاستقطاب الدولي ضد دولة الابارتهايد الجديدة "إسرائيل". هل سنكرر التجربة المريرة مع إدارة أوباما ونخسر المزيد. لا أحد يستطيع تبرير ركوب موجة فشل آخر.

لقد اصبحنا أمام خيارين الاول: الذهاب الى تفاوض دون ضمانات (أهداف ومرجعية) ودون وقف للاستيطان الذي يعادل توفير غطاء فلسطيني لحل الفصل العنصري الذي يدمر حقوقنا الوطنية المشروعة. الخيار الثاني: رفض المفاوضات ووضع استراتيجية نضال بالاستناد الى تضامن شعوب العالم ومؤسسات وقوى تحترم حقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. نريد استراتيجية تجعل العالم معنا وليس المطلوب مغامرة وفوضى واستخداماً إقليمياً يعزلنا عن العالم. الخيار الثاني يتطلب إعادة بناء صفوفنا على أسس ديمقراطية حقيقية وتطوير بنية المؤسسة، وإذا كان ثمن هذا الخيار وقف الدعم المالي، فسنكون نحن الرابحين وبخاصة اذا لم نعد للفوضى. التحقيق في الموافقة الفلسطينية على تأجيل تقرير غولدستون هو بداية التغيير.. فهل نبدأ؟.

 

Mohanned_t@yahoo.com