إن ما يجري حاليا لمدينة القدس من حصار وحفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى وهدم بيوت الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم ، بهدف تهويد المدينة، ليس فعلاً منعزلاً بل حلقة واحدة من سلسلة الاغتصاب التي ما فتأت تعبث بالوطن الفلسطيني دون هوادة بما فيها الإمعان بمصادرة الأراضي وبناء الجدار في الضفة الغربية، وما جرى ويجري من حرب وحصار على قطاع غزة. إن محاولة السلطة الفلسطينية اليائسة لاستصدار قرار دولي لوقف السياسات الإسرائيلية في مدينة القدس لكي يضاف إلى القرارات التي يزيد عددها على 1000هي محاولة وكذلك اجتماع مجلس الجامعة العربية لمناقشة الوضع في مدينة القدس لا جدوى منهما. في حين أن في يد السلطة الفلسطينية والدول العربية قرار دولي يغني عن كل القرارات التي صدرت بشأن القضية الفلسطينية ويغني عن طلب قرار دولي بشأن ما يجري في مدينة القدس، ألا وهو فتوى محكمة العدل الدولية الخاصة بالجدار والصادرة بتاريخ 9/7/2004، والتي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار صادر بتاريخ 19تموز/ يوليه 2004، وبأغلبية 165صوت ضد 6 وامتناع 15 ،هذه الأغلبية الساحقة في إطار جلسة طارئة للاتحاد من اجل السلام حولت هذه الفتوى إلى قانون دولي ملزم.
لقد جاءت هذه الفتوى مجسدة للعدالة الدولية وتعبيرا عن إرادة غالبية أشخاص المجتمع الدولي بفضل الجهود الصادقة، وإنني كقانوني اعتبر أن هذه الفتوى من أهم القرارات الدولية التي صدرت لصالح القضية الفلسطينية، فهي لم تتعلق بجريمة الجدار وحدها، بل تناولت القضية الفلسطينية منذ صك الانتداب حتى تاريخها، فقبل قيام المحكمة بتناول موضوع الفتوى، قامت بتحليل تسلسلي مقتضب للوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تناولت الفتوى التأصيل التاريخي للحقوق الفلسطينية، وبحق كان ملفت للنظر، حيث أسندت المحكمة كل ما حوته الفتوى من عناصر إلى الأساس التاريخي للحقوق الفلسطينية، الذي يمتد إلى عصر الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم فترة الانتداب البريطاني، وبينت ما كان يتوجب على بريطانيا القيام به تجاه الشعب الفلسطيني ليتمكن من النهوض والاستقلال كونها كانت مؤتمنة عليه وفقا لصك الانتداب، ثم تناولت قرار التقسيم وما عناه، ومن ثم جاءت على اتفاقيات الهدنة التي أبرمت بعد حرب عام 1948 ، ثم انتقلت إلى مرحلة الحرب العدوانية عام 1967. وبينت إن إسرائيل هي قوة احتلال في هذه الأراضي بما فيها القدس. وأن عليها واجبات تجاه هذه الأراضي وسكانها تفرضها قواعد القانون الدولي وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة ، وانه ليس من حقها اتخاذ أي إجراء يغير في طبيعة هذه الأراضي .
ما من شك إذا ما أحسن التعامل مع هذه الفتوى، وذلك بنفس الخطوات التي اتخذتها المجموعة العربية حين طلبها وحين تبنيها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، فان ذلك سيمثل منعطفاً هاماً في مسيرة التضامن العربي ونضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وذلك للأسباب الآتية .
1- إن الفتوى قد صدرت من أعلى هيئة قضائية دولية، يعتبر ما يصدر عنها مجسدا للإرادة الدولية ، ومنشئاً لقواعد قانونية على أهمية كبرى بالنسبة للمجتمع الدولي تختلف عن تلك القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة كونها ذات طابع سياسي تلعب مجريات وظروف السياسة الدولية ومصالح الدول دورا كبيرا في صدورها .
2- إن الفتوى تم طلبها وتبنيها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة وبقرار حاز علي أغلبية عظمي من أصوات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، مما يعني أن الدول التي صوتت لصالح قرار طلب الفتوى وتبنيها تدرك أن بناء الجدار فيه انتهاك للقوانين الدولية بما فيها قواعد ميثاق الأمم المتحدة .
3- شكلت الفتوى إدانة حقيقة لممارسات "دولة" الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها مدينة القدس، واعتبرتها خرقاً لقواعد القانون الدولي عامة، ولقواعد القانون الإنساني الدولي خاصة، كما وتضمنت تأكيداً علي أن الاستيطان ومصادرة الممتلكات واكتساب الإقليم من الأفعال غير المشروعة وفقا لقواعد القانون الدولي .
4- لقد جاءت الفتوى بحكم واضح وصريح، قضى بأن بناء الجدار فيه انتهاك وخرق للقانون الدولي، وفيه مخالفة لالتزامات "إسرائيل" وواجباتها كدولة احتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وغير مشروع ويجب على "إسرائيل" التوقف فورا عن البناء وإزالة ما تم بناؤه وإعادة الحال لما كانت عليه قبل القيام بالبناء، وتعويض المتضررين جرائه. .
5- كما تضمنت الفتوى قيام المسئولية الدولية تجاه "دولة" الاحتلال الإسرائيلي جراء بنائها للجدار، كما بينت بوضوح الواجبات والالتزامات المترتبة على منظمة الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها، وعلى أطراف معاهدة جنيف من وجهة نظر القانون الدولي، والمتمثلة بعدم جواز الاعتراف بما يترتب على الممارسات الإسرائيلية بما فيها بناء الجدار من نتائج وتغييرات على الأرض، كما وحثتها علي التعاون من أجل وقف الخروقات الإسرائيلية وتصويب الآثار المترتبة عليها .
6- كون الفتوى بينت أن الحجج التي ساقتها "إسرائيل" لتبرير بنائها للجدار غير قانونية وبخاصة تلك المتعلقة بالدفاع عن النفس وحالة الضرورة العسكرية.
7- تنطوي هذه الفتوى على صفة الإلزام القانوني والأخلاقي لأعضاء الأمم المتحدة وبخاصة أولئك اللذين أيدوا قرار طلبها وتبنيها.
للأسف الشديد منذ صدور الفتوى تراخت الهمم وهمدت العزائم ووضعت هذه الفتوى الأدراج كغيرها من القرارات ولم تستثمر بالشكل القانوني الصحيح الفعال، بوضعها موضع التنفيذ الذي كان يستوجب تشكيل لجنة مستقلة من ذوي الاختصاص والأكفاء لتتولى هذه المهمة، واكتفينا بالحملات الشعبية للقيام بمجرد الاحتجاجات المنددة التي لا فائدة مرجوة منها مقابل التعنت والصلف الإسرائيلي وعدم التزامه بالشرعية الدولية. والقصور لم يصب السلطة الفلسطينية وحدها بل انه وللأسف أصاب الكل فلم يعد هناك عزيمة وهمة وتحدي لماذا؟؟؟؟ . إن العمل على إنفاذ هذه الفتوى أفضل بكثير عن السعي لاستصدار قرار دولي لما يجري في القدس ومجمل الأراضي الفلسطينية في الآونة الأخيرة. وإنني كقانوني أخاطبكم ومن موقع المسؤولية تجاه قضيتي وقضية الأمة، فإنا لا ابحث عن مصالح أو مكاسب شخصية، بل ابحث عن قضية وعن حقوق شعب وأمة وهذا ما يقع على عاتق مثقفيها وعلى عاتق الغيورين من أبناءها.
في النهاية فإنني اجزم بالقول بأن التمسك بفتوى محكمة العدل الدولية الخاصة بالجدار والتي جاءت بطلب من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار صادر في إطار الاتحاد من اجل السلام، وأحسن استثمارها بشكل قانوني واعتبارها المرجعية الأساسية للشرعية الدولية بخصوص مستقبل مفاوضات السلام من اجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وبالتالي إنهاء الصراع لهو من الأمور الجوهرية التي تنطوي على إستراتيجية دفاعية عن الحقوق الفلسطينية تؤدي بالتدرج إلى ترسيخ عزلة دولة الاحتلال الإسرائيلي وحلفائها وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية كونهما تعيقان وتنتهكان القانون الدولي، وبالتالي تقوية يد المجتمع الدولي في سعيه لتطبيق الشرعية الدولية وتكثيف العوامل التي تفرض العزلة الأخلاقية والسياسية على كل دولة تتطاول على الشرعية الدولية.
إن التمسك بالفتوى واستثمارها بالشكل الذي أسلفناه يحتاج إلى جهود جماعية وصادقة وعمل متواصل كما عهدناه عند طلب الفتوى، وهذا العمل بحاجة إلى السقف الرسمي لينطلق من خلاله، ويكون بالتواصل مع الدول الإطراف السامية المتعاقدة في اتفاقيات جنيف وحثها على تفعيل النص المشترك في هذه الاتفاقيات والذي يتعلق باحترامها وصيانتها من أي انتهاك وكذلك حثها على تفعيل نص المادتين 146و147 المتعلقتان بإصدار تشريعات تجرم أي انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة وتحدد نوع الجرائم المرتكبة وذلك بالرجوع إلى بنود الفتوى، ويكون العمل بداية مع الحكومة السويسرية كونها الضامنة لهذه الاتفاقيات، وكذلك تكثيف العمل مع الدول التي صوتت لصالح قرار طلب الفتوى وتبنيها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بداً بالدول العربية وثم دول المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز ودول أميركا اللاتينية ودول الاتحاد الإفريقي وغيرها كالدول الصديقة في الاتحاد الأوروبي.
*ماجستير في القانون العام