بقلم: د. جورج جقمان

أبدأ بالقول: إن هذا هو السؤال الخاطئ كردّ فعلٍ على خطاب الرئيس محمود عباس، رغم أنه أحد الجوانب التي جرى إبرازها إعلامياً في الصحافة العربية ووسائل الإعلام الأخرى. السؤال الأساسي هو: كيف يُقرأ خطاب أبو مازن، وما هي الجوانب الرئيسية فيه، وماذا يمكن التوقّع بخصوص المستقبل؟

إن جوهر الخطاب فيما يتعلق بالرسائل الموجهة إلى أطراف مختلفة يتمحور حول ثلاث نقاط: الشروط أو النقاط الثماني التي عدّدها كأساس لنجاح أية مفاوضات ممكنة تؤدي إلى حل الدولتين، ثم عزمه عن عدم الترشّح مرة أخرى، وأخيراً موضوع الانتخابات، وبهذا الترتيب من ناحية الأهمية، علماً بأنه توجد علاقة بين هذه الجوانب الثلاثة كما سنرى.

إن الجانب الأهم في الخطاب هو النقاط أو الشروط الثمانية المتعلقة بأي مسعى ناجح يؤدي إلى حل الدولتين. وقد قدمها بالقول: إن السلام أهم من أية اعتبارات حزبية ضيّقة ائتلافية أو انتخابية لدى الجانب الإسرائيلي. وهذا القول صحيح تماماً لأن اعتبارات السياسيين في الحكومة الحالية والحكومات الإسرائيلية السابقة هي انتخابية ونفعية وارتزاقية أيضاً كما هو الحال عند حركة "شاس" وهمها الأول هو المخصصات المالية لمؤسساتها. ثم أشار إلى أنه رغم التعثّر في مسار المفاوضات حتى الآن ما زال من الممكن التوصل إلى حل الدولتين وإن كان بشروط، ثم قام بتعدادها.

ولعلّ الأهم في الشروط أو النقاط الثماني هو شرط رقم خمسة المتعلق بالمستوطنات، ففيه مفتاح الخطاب. وأقتبس هنا حرفياً من الخطاب كما نشر في الصحف المحلية: "لا شرعية لبقاء المستوطنات فوق الأراضي الفلسطينية". غير أن عدم شرعية المستوطنات أمرٌ مفروغٌ منه، من منظور فلسطيني وهو أيضاً موقف العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة مؤخراً. الأمر الأساسي في هذا البند هو ما هو غير موجود فيه، أي الاصرار على إيقاف وتجميد الاستيطان كشرط للعودة للمفاوضات، وهو الشرط الذي تمسك به المفاوض الفلسطيني خلال الشهور الماضية. ما هو غير موجود في هذا البند أهم مما هو موجود فيه.

وعلية يمكن قراءة الشرط الخامس على أنه قبول ضمني بالتفاهمات التي تمت بين الادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية بتجميد جزئي للاستيطان، ولكن فقط مقابل قبول الادارة الاميركية الشروط السبعة الأخرى كأساس لاستمرار المفاوضات، أي وجود مرجعية واضحة ومحددة لها وعدم البدء من نقطة الصفر كما تريد الحكومة الاسرائيلية.

هنا اذاً توجد مقايضة: تقبل ولو على مضض الاتفاق الاميركي مع الحكومة الاسرائيلية المتعلق بالمستوطنات مقابل قبول الولايات المتحدة الشروط السبعة الاخرى والضغط على اسرائيل بهذا الاتجاه. دون ذلك لا مفاوضات .

وفي هذا السياق يجب فهم الاعلان عن عدم النية للترشح لرئاسة السلطة الفلسطينية من قبل أبو مازن، أي في حال عدم قبول هذه الشروط، وبهذا المعنى إنه اعلان مشروط وخطوة غير نهائية وإنما الخطوة ما قبل النهائية.

هنا قد ينشأ الاعتراض على هذه القراءة بأن الرئيس قال في خطابه ان رغبته بعدم الترشح ليست خطوة تكتيكية او مناورة وإنما هو يقصد ما يقول. لكن لنفترض السيناريو التالي: توافق الولايات المتحدة على الشروط السبعة وتضغط على إسرائيل لقبولها ويتم ذلك بعد الضغط. هل سيتمكن أبو مازن من الخروج من الساحة السياسية في ظرف مثل هذا؟ إن قرار عدم الترشح أو الاستقالة من العمل السياسي ليس دائماً شأناً شخصياً فقط، وتنشأ أحياناً ظروف يكون المرء مطالباً فيها بالاستمرار ولو الى حين.

فيما يتعلق بالانتخابات يترك الخطاب عدة اسئلة مفتوحة. ماذا لو لم يتم إجراء انتخابات؟ الرئيس لم يقل في خطابه إنه سيستقيل وقال انه لن يترشح. لكن ماذا إذا تم تأجيل عقد الانتخابات ولم يفتح باب الترشح، أي انه لم يكن هناك فرصة أو مجال لابراز عدم الترشح كخطوة عند فتح باب الترشح؟

إن احد مفاتيح الموضوع يكمن في الخطاب نفسه إضافة الى معطيات أخرى من بينها موقف حركة فتح من إجراء الانتخابات أو عدمها في حال تبين عدم إمكانية عقدها في غزة أو في القدس. لقد قال أبو مازن، وهنا اقتبس حرفياً "ان الانتخابات ستشمل حكماً الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة". ماذا تعني كلمة "حكماً"؟ الايحاء هنا هو أنه إن لم يكن من الممكن اجراؤها في غزة أو في القدس فإنها قد لا تتم. هذه بالطبع قراءة أو تفسير للخطاب ولكن وجود كلمة حكماً مضافة الى النص تعني التشديد على إجراء الانتخابات في كافة هذه المواقع وكشرط لاجرائها.

لكن، لو لم تتم الانتخابات في موعدها المعلن كما هو ممكن، هل سيستمر أبومازن في منصبه، مرة أخرى، هو لم يقل أنه سيستقيل أو انه سيتوقف عن مزاولة أعماله كرئيس للسلطة الفلسطينية بعد تاريخ معين، وإنما قال انه لن يترشح. لكن ماذا لو ان باب الترشح أو اشهار عدم الترشح مغلق بسبب تأجيل الانتخابات؟ هذا سؤال مفتوح ولكنه أيضاً يتيح الامكانية للاستمرار في حال وجود مصلحة وطنية تستدعي ذلك مثل قبول الشروط السبعة من قبل الادارة الاميركية أي الانتصار في جولة على الحكومة الاسرائيلية الحالية بعدها سيطلب منه الاستمرار من قبل أطراف عدة داخلية فلسطينية وعربية ودولية.

في كل الاحوال، سيستمر أبو مازن كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي تجري المفاوضات باسمها رسمياً وهو لم يقل انه سيتخلى عن هذا المنصب.

نحن إذاً أمام تحركات ومقايضات اللحظة ما قبل الاخيرة وهي لحظة دقيقة وخطرة أيضاً، لقد رمى أبو مازن الكرة في ملعب الولايات المتحدة وكأنه يقول: "أعطيتكم شيئاً لكن أريد مقابل، وإلا لا مفاوضات". والسؤال هو: هل ستلتقط الادارة الاميركية الكرة أم تدفع المنطقة الى الفراغ السياسي الذي سيؤدي عاجلاً أم آجلاً الى عودة الصراع المحتدم؟

 

ü جامعة بيرزيت