نفاق الموقف الأوروبي- محمد ياغي

 

يحق للفلسطينيين التعبير عن استيائهم من البيان الأوروبي الأخير، لأن التغير الذي طرأ على اللغة في بيانهم ليس مسألة هامشية يمكن التغاضي عنها. فالحديث عن استعداد الاتحاد لقبول "أي حل" يقبل به الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي بشأن القدس ليس موقفاً يمكن "التصفيق له"، خصوصاً وأن الموقف الفلسطيني واضح بشأن القدس باعتبارها أهم محاور الصراع مع إسرائيل، وأن عاصمتهم يجب أن تكون القدس التي احتلتها إسرائيل العام 1967 وليس أبو ديس والعيزرية. والأهم من ذلك كله، أن الفلسطينيين كانوا يريدون "بياناً" يؤيد موقفهم السياسي من القدس وحقهم القانوني بها، وليس بياناً "تشجيعياً" لأطراف الصراع للاتفاق على "القدس" من خلال المفاوضات. النقطة الإيجابية في البيان هي عدم تراجع الاتحاد الأوروبي عن مواقفه السابقة برفضه أية إجراءات أحادية في القدس، وبرفضه الإقرار بما تقوم به إسرائيل من عملية "تهويد" للقدس، أو بحقها في تحديد مستقبلها دون موافقة الفلسطينيين على ذلك. الأوروبيون والفرنسيون تحديداً الذين تصدروا العمل السياسي لتعديل المشروع السويدي، والألمان والبريطانيون الذين أيدوا "جهد" الفرنسيين، هم فعلياً القوة الأهم في أوروبا التي يمكنها التأثير في مجرى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعندما يكررون نفس مواقفهم القديمة، فكأن شيئاً لم يتغير منذ ثمانينيات القرن الماضي. بل على العكس جاء بيانهم هزيلاً، مبشراً بامتناعهم عن التصويت في حالة طرح مشروع قرار على مجلس الأمن للتصويت عليه لتحديد حدود الدولة الفلسطينية، لأن ما ينطبق على إسرائيل من رفض لإقرار خطواتها أحادية الجانب، سيتم رفضه أيضاً، وبالمثل، عندما يطلب الفلسطينيون حدود دولتهم دون موافقة إسرائيل. صحيح أن أوروبا تقدم مساعدات مالية كبيرة للسلطة الفلسطينية، وبدونها فإن من الصعب تخيل كيف يمكن للسلطة الاستمرار في عملها. لكنها في نهاية المطاف مساعدات بأهداف سياسية عديدة. لعل أهمها أن لا ينفجر الفلسطينيون في وجه الاحتلال، وأن لا تعود إسرائيل لتحمل الوضع الإداري والمالي والقانوني كسلطة احتلال. هي مساعدات لا تستهدف مساعدة السلطة "فقط" بل أيضاً مساعدة لإسرائيل على التمتع بالراحة من عبء احتلالها، وهي أيضاً أداة لتطويع الموقف الفلسطيني "سياسياً" كلما اقتضت الضرورة. جميعنا يتذكر أن المساعدات الأوروبية لعبت دوراً ضاغطاً في تغير شكل النظام السياسي الفلسطيني عندما أصبح الفلسطينيون مضطرين لتغيير قانونهم الأساسي في عهد الراحل عرفات. وجميعنا يعلم كيف أصبحت الشفافية المالية ضرورية "فجأة" وأصبح على الأموال أن تذهب الى خزينة موحدة للسلطة، وحورب عرفات من أجل ذلك. لكن هذه الشروط تم التغاضي عنها وتشجيع التغاضي عنها، بعد أيام من نجاح "حماس" في الانتخابات، وأصبحت أموال الأوروبيين وبرغبتهم وتحويلاتهم هم، تأتي الى حسابات خارج وزارة المالية، رغم صراخهم الذي لم يتوقف عن الشفافية المالية ونفاقهم المستمر بشأن الديمقراطية. وبالمثل، في حرب إسرائيل على غزة، لم يتحرك "الضمير" الأوروبي السياسي، واكتفى بالصمت تأييداً لسياسة الاحتلال، وبالصمت عندما تم التصويت على مشروع غولدستون في جنيف، لكنه لم يصمت، وكان فاعلاً في مؤتمر شرم الشيخ لحشد الاموال لإعمار غزة، التي لا تزال على حالها بعد سنة من تدميرها، وكأن "سياسته" المبنية على النفاق تريد من جهة أن تقف مع الجلاد "حباً وغراماً" به، ولكنها أيضاً، تريد القول، إنها تشفق على حال "الضحية". الموقف الأوروبي تجاه الشعب الفلسطيني أقل بكثير من المسؤولية الأخلاقية المرتبطة بتاريخهم في المنطقة. بريطانيا مثلاً هي من سهل هجرة "اليهود" الى فلسطين، وساهم في اقتلاع شعب بكامله من أرضه، وهي من أعطى أرضاً لا تملكها لهم، وهي من تبنى مشروع الدولة "اليهودية" من ألفها الى يائها، وهي لم تغادر فلسطين إلا بعد أن أصبحت إسرائيل حقيقة قائمة، دون إغفال حقيقة احتلالها لأكثر من ثلثي العالم العربي واستغلالها لخيراته ومساهمتها في تخلفه. وفرنسا ليست بحال أفضل، فهي من ساهم في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي، ومن سعى لإضعاف الموقف الناصري في خمسينيات القرن الماضي، وهي أيضاً من استغل خيرات المنطقة باستعمار مباشر لدوله عشرات السنين. وإذا كانت ألمانيا لم تحتل أي دولة في المنطقة، فإن نتيجة الجريمة التي تعرض لها اليهود على أرضها دفع ويدفع ثمنه الفلسطينيون من أرضهم ودمائهم. الأوروبيون مسؤولون تاريخياً عن العديد من الجرائم التي حدثت في المنطقة العربية، وفي فلسطين تحديداً، وموقفهم المنافق أقل بكثير مما هو مطلوب. الحقيقة أن سياسة الأوروبيين تجاه الصراع في الشرق الأوسط منذ ثمانينيات القرن الماضي كانت تابعة للموقف الأميركي ولم تخرج عنه إلا في إطار تفاصيل هامشية لا يمكن ملاحظة جديتها. مثلاً، الموقف الأوروبي من منظمة التحرير كان أفضل من الموقف الاميركي، لكنه لم يكن ضاغطاً على الولايات المتحدة وإسرائيل لتغير موقفها من المنظمة أو لإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، بل ضاغطاً على المنظمة لتقديم تنازلات حتى يتم تأهيلها لقبول إسرائيل والولايات المتحدة لها. بعد أوسلو، لم يتغير شيء فعلياً، الموقف الأوروبي لم يكن متقدماً على الموقف الأميركي بل عمل في ظله. المساعدات المالية للسلطة أصبحت جزءاً أساسياً من سياسة الاتحاد الأوروبي بناء على طلب أميركي. وعندما اقترح الأميركيون عملية "إصلاح" شاملة للسلطة في عهد الرئيس بوش، كان الاوروبيون السباقين لتصدر عملية إعادة التأهيل. سياسياً، لم يبتعدوا في أي من خطواتهم عن الموقف الأميركي، وانتظروا إعلان خارطة الطريق لتبنيها، وبعضهم في أفضل الأحوال، حث الأميركيين على عدم مهاجمة العراق واحتلاله قبل وضع "عملية السلام" على مسار "متحرك" لأن هذا سيساهم في دعم "بعض العرب" لحربهم على العراق وسيقلل من حالة الغضب العربي (بلير مثلاً تزعم هذا النهج). تذاكي الأوروبيون بأن استعمارهم للمنطقة لأكثر من مائة سنة مثلاً، قد ساعدهم على فهم عقلية شعوبها، ليس بالضرورة سيئاً. لكنه فهم لتطويع المنطقة ويرفض القبول بأن شعوب العالم العربي تريد أن ترى نهاية للاحتلال، وليس عملية سلام تعيد إنتاجه. الأوروبيون الذين "يفهمون" المنطقة بحسب ادعائهم، لم يصلوا بعد الى هذا "العمق" من الفهم، لأن سياستهم تابعة، منافقة، غير مستقلة، ولا يعول عليها.