حـوار في المفاهيـم- مفهوم الحل لدى الجانب الاسرائيلي- بقلم : د. مصطفى البرغوثي-2- 4

 

الافتراض التقليدي لدى انصار المفاوضات وعمليات السلام في الجانب العربي ان السير في طريق السلام وحل الصراع مع اسرائيل وتوقيع الاتفاقيات معها سيؤدي الى اعتدالها وتشجيع معسكر المعتدلين فيها. فهل تحقق هذا الافتراض؟ وهل أثبتت الوقائع صحته؟

لقد شهدت المنطقة ثلاث اتفاقيات بين العرب واسرائيل، أولاً اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1979، ثم اتفاق اوسلو مع منظمة التحرير عام 1993، وبعد ذلك اتفاق وادي عربة مع الاردن عام 1994. وفي حين كانت الاتفاقيات مع مصر والاردن نهائية، بمعنى ان الاتفاقيات كانت ذات طابع نهائي، لم يكن اتفاق اوسلو سوى اتفاق اعلان مباديء، حصلت فيه اسرائيل على الاعتراف بها كدولة، ولم يحصل الفلسطينيون سوى على الاعتراف بمنظمة التحرير، ولم يطبق الاتفاق لاحقا ولا مضمونا من الجانب الاسرائيلي بل جرى الغاء معظم ما طبق منه من عمليات اعادة الانتشار خلال اجتياحات الضفة الغربية عام 2002 .

اللافت ، ان الاعتدال الذي جرى توقعه في اسرائيل لم يحدث، بل شهدت اسرائيل اربعة تطورات هامة :-

I – على الساحة السياسية :

1)      انهيار الأحزاب اليسارية باعتدالها المزعوم بما في ذلك حزب العمل وميرتس، وسيطرة الأحزاب اليمينية المنبثقة من الليكود – ليكود وكاديما – بصورة كاملة على المشهد السياسي.

2)      انعطاف الاحزاب الدينية نحو التطرف العنصري واليمين المتشدد بما في ذلك حزب شاس، وتحولها الى مرتع لنفوذ المستوطنين.

3)      نشوء احزاب أشد عنصرية وتطرفاً مثل حزب ليبرمان الذي أصبح ثالث اكبر حزب في اسرائيل.

والواقع انه باستثناء الأحزاب العربية في الكنيست الاسرائيلي لم يبق احزاب يمكن تصنيفها بالاعتدال او الميل للسلام ، فحتى حزب العمل الذي اصبح وجوده هزيلاً – انعطف نحو اليمين العنصري واصبح عنصراً مكوناً وداعماً من خلال باراك للحكومات اليمينية المتطرفة.

II -       على الساحة الاقتصادية :-

ضاعفت اسرائيل دخلها القومي اكثر من ثلاث مرات وضاعفت انفاقها على الاسلحة والتسلح والمنظومات الامنية.

ونشأت في اسرائيل صناعة جديدة – تشكل قاعدة للحروب والتطرف العدواني – وهي صناعة الأمن – الشركات الامنية الخاصة التي تشكل امتداداً للموساد والشاباك.

وكذلك قطاع صناعة وتصدير السلاح – الذي يستخدم لبنان والاراضي المحتلة خاصة غزة ميداناً لتجاربه، والذي جعل اليوم اسرائيل ثالث اكبر مصدر للسلاح في العالم بحجم مبيعات يقارب السبع مليارات دولار، فتجاوزت اسرائيل فرنسا وبريطانيا وهي على اعتاب تجاوز روسيا لتصبح ثاني اكبر مصدر للسلاح في العالم بعد الولايات المتحدة.

واستخدمت اسرائيل هذا القطاع والامتيازات التي حصلت عليها من الولايات المتحدة من خلال تسهيلات استخدام التكنولوجيا الامريكية والسماح بتصديرها بشروط مفضلة على شروط الولايات المتحدة نفسها، واستخدمته كأداة لتوسيع نفوذها وعلاقاتها الاستراتيجية ببلدان كانت تقليدياً مساندة للعرب والفلسطينيين مثل الهند – التي غدت اكبر مستورد للسلاح من اسرائيل – والصين وروسيا والبرازيل وغيرها.

 

وتسلقت اسرائيل على احداث 11 سبتمبر وهستيريا الحرب على  "الارهاب" لتوسيع وجود منظوماتها الامنية في بلدان كثيرة.

III -      على الساحة العسكرية وادارة الصراع :-

وخلال نفس فترة الاتفاقيات – اذا اعتمدنا تاريخ 1979 كمؤشر ، شنت اسرائيل عدة حروب، ابتداء من حربها على لبنان عام 1982 ومروراً باجتياحها للضفة الغربية عام 2002 وانتهاء بحربها الوحشية على قطاع غزة عام 2008/2009. أي ان جنوح العرب للسلم لم يجعل اسرائيل توقف استخدامها للقوة العسكرية والحروب كوسيلة لتحقيق اهدافها السياسية، بل ان اسرائيل اطلقت العنان لحروبها وهجماتها المدمرة بعد ان اطمئنت الى تحييد الجيوش العربية بالكامل، وصارت تستفرد بالفلسطينيين والاطراف العربية الواحد تلو الأخر.

IV -      اشتداد وتيرة التوسع الاستيطاني، بعد كل عملية سلام، واستخدام عمليات السلام كغطاء لفرض الامر الواقع الاسرائيلي ومضمونه (نظام الابارتهايد والمعازل) في الاراضي المحتلة.

            وقد لاحظت صحيفة هآرتس هذا الامر في مقال لها قبل ايام، قدم اجابة قاطعة على الحجة القائلة " ان عدم التفاوض لا يوقف الاستيطان فلماذا لا نتفاوض حتى لو استمر الاستيطان".

 

            المقال المذكور اكد العكس، وهو ان الاستيطان يتراجع، وتخف وتيرته في فترة المواجهات، وعندما يشعر المستوطنون بالقلق من المستقبل، ويسترخي بالمقابل ويزداد عنفاً وتسارعاً عندما يحتمي بالمفاوضات او اتفاقيات السلام لصد الاحتجاجات والانتقادات الدولية.

            والادلة المقدمة على ذلك كثيرة منها، ان مناحيم بيغن قام بانشاء مائة مستوطنة جديدة في الضفة الغربية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979، أما اسحق رابين فقام بعد توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 باطلاق عملية شق الطرق الالتفافية التي قطعت اوصال الضفة الغربية وضمنت تواصلاً جغرافياً بين المستوطنات في الضفة واسرائيل. وبنفس الاسلوب أنشأ نتنياهو بعد واي ريفر مستوطنة جبل ابو غنيم وشجع التوسع الاستيطاني في كل مكان بما في ذلك شق النفق تحت المسجد الاقصى، أما اولمرت فقام خلال مفاوضات انابوليس بتعميق وتوسيع التوسع الاستيطاني في القدس ومحيطها، وها هو نتنياهو يستغل المفاوضات الحالية لتشريع التوسع الاستيطاني وتكريس عملية الضم والتهويد والتطهير العرقي في القدس والضفة كسياسة رسمية.

السؤال هنا، كيف ينعكس ذلك على المواقف السياسية تجاه موضوع الحل او التسوية مع الفلسطينيين؟ اذا ازلنا الرتوش وجمل التجميل عن المواقف الاسرائيلية سنجد موقفين :-

الموقف المتطرف – يعتبر ان اسرائيل انتصرت في حروبها، وهي قوية وقادرة، ولكنه يخشى من (العامل الديموغرافي) وتعاظم العزلة الدولية على الصعيد الشعبي، ومن تصاعد حملة المقاطعة ضدها على مستوى الشعوب، وتزايد التوتر من عدوانيتها. ويخشى اكثر من فوات فرصة استغلال الانقسام وتفتت الفلسطيني الداخلي والانهاك والضعف الذي اصاب حركة التحرر الوطني.

ولذلك يتبنى هذا النهج خدعة "الدولة" من خلال تحويلها الى مجرد سلطة حكم ذاتي هزيل على كانتونات ومعازل تحت الهيمنة الاسرائيلية ونظام الابارتهايد على أقل من نصف الضفة الغربية، ويطالب مقابل ذلك بثمن. التنازل عن حق العودة وعن القدس وعن الحق التاريخي الفلسطيني من خلال الاعتراف بيهودية اسرائيل وانهاء الصراع معها.

 

ويعالج هذا النهج المشكلة الديموغرافية ليس من خلال الانفصال بحل الدولتين بل بتزوير حل الدولتين  - على شكل دولة ذات حدود مؤقتة – بهدف كسب الوقت لفرض حقائق جديدة وعناصر تساعد على مزيد من تفتيت الفلسطينيين وتهجيرهم.

الموقف الثاني هو الاشد تطرفاً، وقد عبر عنه بوضوح ادوارد ليدويغ في مناظرة Intelligence Squared بلندن مؤخراً، كما يوضحه ليبرمان مراراً، فيعتبر ان اسرائيل انتصرت في حروبها وهي الان قوية اقتصادياً وسياسياً وعلى الفلسطينيين والعرب الاعتراف بالهزيمة، ولا حاجة لاسرائيل حتى لاتفاقيات حل نهائي معهم، بل هي ليست بحاجة لعملية سلام. وبالتالي فالمطلوب مجرد ترتيبات انتقالية تعطي شرعية للتطهير العرقي الاول ضد الفلسطينيين الذي تم عام 1948، وفتح الباب للتطهير العرقي الثاني الجاري حالياً بحدة في القدس، ومن خلال استخدام الاستيطان المتنامي في سائر ارجاء الضفة الغربية.

واصحاب هذا النهج هم المروجون لتضخيم ما يسمونه "الطفرة الاقتصادية" في الضفة الغربية، على قاعدة "تحسين الاقتصاد  (او المعيشة) في ظل الاحتلال، في عودة لما طرحه شارون ومناحيم ميلسون عام 1982. أي انهم يتحدثون عن القفزة الاقتصادية في رام الله للترويج لامكانية تعايش الفلسطينيين مع نظام التمييز العنصري والاحتلال.

واللافت ان النهجين المتطرف والاشد تطرفاً يتقاطعان في أمرين، فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، باعتبار ان من المريح التنازل عن 3ر1% من مساحة فلسطين للتخلص من 30% من المعادلة الديموغرافية الفلسطينية. (يبلغ عدد سكان القطاع 6ر1 مليون من اصل 5ر5 مليون فلسطيني يعيشون اليوم على ارض فلسطين التاريخية).

والثاني...الاصرار على مواصلة النشاط الاستيطاني، وضم القدس والاصرار على اعتراف فلسطيني بيهودية دولة اسرائيل كجسر لانتزاع شرعية دولية نهائية للتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني وسرقة ارضهم عام 1948.

كثيراً ما بحث المفاوضون العرب والفلسطينيين عن الافتراضات الوهمية في مواجهة قسوة الواقع في المواقف الاسرائيلية. وكثيراً ما يلجئوا للاستنجاد بالمجتمع الدولي الرسمي، دونما مجيب، لانهم يصرون على تجاهل الحقيقة البسيطة بأن الدول والحكومات تحركها المصالح وليس الاخلاق وحدها ان كان هناك اصلاً اعتبار للعامل الاخلاقي، وان تغيير موقف دولة ديمقراطية يتطلب التأثير في موقف شعبها بمكوناته وليس جهازها البيروقراطي فقط. وان الصراعات تحل او تحكم بموازين القوى وليس بالتمنيات او الخطابات مهما بلغت بلاغتهــا.