لقد خاض الشعب الفلسطيني نضالا مريراً على مدار اكثر من قرن من الزمان. وجرب كل اشكال النضال من المقاومة الشعبية والسلمية الى الكفاح المسلح بتنوعاته- وحقق صموداً مذهلاً في وجه ابشع استعمار كولونيالي، وكان انجازه الاكبر رغم مأساة النكبة عام 1948 وتأمر الكثيرين، ان الوجود الديموغرافي على ارض فلسطين اليوم مساو عددياً للوجود الاسرائيلي مما وضع سداً منيعاً في وجه مخطط ابتلاع كل فلسطين وتهجير اهلها.
غير ان الوجود البشري الديموغرافي وحده ليس كافياً. فهو لن يكون مؤثراً ان كان مجرد وجود سلبي لتجمعات سكانية خانعة لنظام التمييز الاسرائيلي او قانعة بمصيرها في سجون وجيتوات، بل انه قد يكون بالغ الخطورة ان قبل الذين تحت الاحتلال بمبدا التعاون مع من يحتلونهم، لان ذلك سيعني حل الصراع عبر الاستسلام للخصم ولمخططاته ومقايضة كل مستقبل الشعب الفلسطيني واجياله القادمة ومصير وطنه بشيء من فتات الخيرات المادية المؤقتة والمعونات العابرة.
ولكي يصبح الوجود البشري انجازاً ، يجب عليه ان يكون حيوياً، مبادراً ومنظماً وبالتالي فاعلاً ومؤثراً.
ودون ان نكرر ما كتب في مقالات سابقة، فان الاستراتيجية التي نقترح تبنيها تستند الى اربعة عناصر :-
1) المقاومة الشعبية الواسعة والمتنوعة، والتي تضمن ثلاث شروط :
أ – اوسع مشاركة ممكنة من الوجود البشري الفلسطيني في فلسطين بما يشمل الجميع، اي الداخل والضفة والقطاع والقدس، والشتات الفلسطيني.
ب – الاستمرارية والتصاعد التدريجي.
ج – الفاعلية والقدرة على التأثير من خلال العمل الموحد.
وهذا يعني التنوع في ممارسة هذه المقاومة من التظاهرات الشعبية، الى مقاطعة لكل ما يمكن استبداله او الاستغناء عنه من البضائع الاسرائيلية – وليس فقط بضائع المستوطنات التي يجري تدويرها الان في المصانع الاسرائيلية الاخرى – الى تنظيم حملات كسر وفك الحصار عن قطاع غزة، الى تحدي اجراءات المستوطنين ومقاومة جدار الفصل العنصري، الى مواجهة نشاط التطهير العرقي في القدس والمستوطنين في الخليل.
وباختصار نحن بحاجة الى استعادة ثقافة المقاومة وروح المقاومة، وفكر الارتباط بالمصلحة العامة، في اطار ما يمكن ان نسميه المقاومة المعنوية والفكرية. ولا بد هنا لكل حركة سياسية ومؤسسة مجتمع مدني تؤمن بحرية الشعب الفلسطيني واهدافه، ان تضع هذا الامر في راس اهتماماتها وفي مواجهة ما يغذيه البعض من ثقافة التكسب الذاتي والانانية الفردية، واليأس والاحباط لتبرير الانزواء عن العمل العام وتكريس المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وذلك يعني بصراحة تعبئة منظمة ومنهجية بفكر وروح الكرامة الشخصية والوطنية والارادة في مواجهة فكر الهزيمة والاستسلام للامر الواقع.
2) دعم الصمود الوطني – اي تطوير تعزيز الوجود الفلسطيني المقاوم على الارض، وذلك يعني تبني سياسة الصمود والتنمية المقاومة اقتصاديا، بالتركيز على الاقتصاد المنتج وليس الاستهلاكي البحت، وباجراءات حماية واسناد للاقتصاد الوطني المنتج، وبتخفيض الضرائب وعبئها على الناس، وباعطاء الاولوية في تنفيذ المشاريع التنموية للقدس ومناطق C والمناطق المهددة بالاستيطان والجدار.
وهذا يتطلب تغييرا جوهرياً في السياسة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، على ثلاث محاور :
أ - التركيز على التنمية البشرية، اي الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والزراعة، واعادة النظر الجذرية في توزيع الموازنات.
ب - التوظيف المنتج اي التركيز على خلق فرص عمل للناس عبر الاقتصاد المنتج وليس بمواصلة تضخيم والتوظيف في اجهزة السلطة وبالتالي تعميق الاعتمادية والتبعية للاطراف المانحة، يما يخلقه ذلك من ضعف بنيوي امام الضغوط السياسية الخارجية. ووضع سياسة منهجية لتشجيع وحماية المنتج المحلي، واعاقة المنتجات الاسرائيلية عن الوصول للاسواق الفلسطينية.
ج - ان تكون المشاريع المنفذة ذات طابع تنموي وليس استهلاكي بحث.
ومن المهم هنا وضع خط فاصل بين نمط التكيف مع الشروط والقوانين القمعية الاسرائيلية وبين نمط مقاومتها بسياسة فرض الامر الواقع الفلسطيني في مواجهة الامر الواقع الاسرائيلي.
3) النهوض بحركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني بكل الاشكال. بما في ذلك حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على اسرائيل (BDS). وهي حركة مؤثرة، يمكن ان تزداد تأثيراً اذا شعر المشاركون فيها ان الجانب الرسمي الفلسطيني يؤيدها ويدعمها. ويمكن لها ان تكتسب زخما لا سابق له، اذا ما نفذت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قرار المجلس المركزي بالتوجه بقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي حول الجدار والاستيطان والقدس، الى الجمعية العمومية للامم المتحدة ومطالبتها رسميا بتبني فرض عقوبات على اسرائيل كما جرى مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا في السبعينات.
ومن الواضح طبعاً ان هناك تعارضاً جوهرياً بين المطالبة بفرض عقوبات على اسرائيل والتفاوض معها في نفس الوقت.
ان تغيير ميزان القوى المختل لا يمكن ان يتم بالقوى الذاتية الفلسطينية وحدها، ليس فقط لان العامل الدولي عنصر اساسي في معادلة ميزان القوى، بل ايضا لان اسرائيل مدعومة دوليا بقدرات هائلة لا يمكن معادلتها الا بقوى دولية اخرى.
4) استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية واستعادة الديمقراطية الفلسطينية التي ضاعت بتأثير حالة الانقسام الخطير والمؤذي، وبناء قيادة وطنية استراتيجية موحدة، تستند الى القبول بالنظام الديمقراطي كأساس لحل اختلاف الرؤى والتوجهات الفلسطينية.
وهذا لن يتحقق حاليا ما لم تقرر حركتا فتح وحماس ان الانشغال بالسلطة سواء في الضفة والقطاع قد اضعف الانضواء في حركة التحرر الوطني، وان المبالغة في الصراع على السلطة (تحت الاحتلال) قد الحق اذى لا يوصف بقضية النضال الوطني التحرري.
ويقدم هذا النهج بعناصره الاربعة بديلاً استراتيجيا للبقاء في نفق مفاوضات لن تثمر، او الاستسلام لشعور الاحباط والعجز. وحتى المفاوضات نفسها، ان جرت بشروط متكافئة مقنعة، وغير منحازة للجانب الاسرائيلي كما يجري حاليا، تبقى بحاجة الى الاسناد بقوة المقاومة وبعناصر الاستراتيجية البديلة.
ان مهمتنا اليوم كما كانت دوما ان اردنا تحقيق الحرية للشعب الفلسطيني، هي ان نجعل تكاليف الاحتلال ونظام الابارتهايد اكبر من مكاسبه. وافضل السبل الواقعية لتحقيق ذلك هي معادلة الجمع بين الصمود السياسي والنضال الشعبي والعزل الدولي – بوصم نظام اسرائيل بحقيقته – كنظام ابارتهايد عنصري. اي استخدام نفس الاستراتيجية الناجحة التي اتبعت عند نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا.
وذلك يعني – نشر الرواية الفلسطينية والوعي بها على مستوى الشعوب، وقوى المجتمع المدني ومن ثم البرلمانات والاحزاب والحركات السياسية، وخلق قوة ضغط تؤثر على مواقف الحكومات كما جرى في جنوب افريقيا. وهو يعني العمل بمثابرة على تقوية حركة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات، والتركيز بقوة على خروقات اسرائيل لحقوق الانسان والقانون الدولي والديمقراطية لكسب الرأي العام الدولي ضد احتلالها ونظامها العنصري.
ان هذه المهمة ليست معقدة وليست صعبة المنال، ان توفرت الارادة والمثابرة والعمل المنظم. وهي السبيل لفتح باب الأمل مجدداً للشعب الفلسطيني في مواجهة محاولات تيئيسه واحباطه. وهي مهمة يمكن قياس نتائج التقدم نحو تحقيقها في كل مرحلة.