لم تشف رزمة الاغراءات والمكافآت الامريكية غليل نتنياهو وحكومة المستوطنين التي يرأسها، بل يطالب بالمزيد. ومن يوم لآخر تتكثف النشاطات الاستيطانية في القدس وسائر أرجاء الأراضي المحتلة، وها هي الادارة الامريكية تنعي عملياً ما يسمى بعملية السلام لتؤكد فشلها في أداء الدور الذي رسمته لنفسها كراع لهذه العملية.
الجاهل، أو المتجاهل فقط ما زال يعول على مفاوضات مع اسرائيل. ذلك أمر مسلم به.
لكن السؤال الأساسي يبقى قائماً، ما هو البديل الذي سيعتمد لفشل نهج المفاوضات؟
لقد وعدت لجنة المتابعة العربية مراراً بأنها ستلجأ للخيارات الأخرى، ووعدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بأن لديها سبعة خيارات بديلة ستنتقي منها.
فلماذا الانتظار؟ ولماذا ترك زمام المبادرة بيد نتنياهو وحكومته ومفاوضاته التي لن تنتهي مع الادارة الامريكية – التي تشعر بالضعف والحرج – للوصول الى صيغة ممسوخة اخرى لمفاوضات غير مباشرة وعديمة الجدوى تشكل غطاءً للتوسع الاستيطاني.
ألم يحن الوقت لاختيار البديل؟ وفي ظل استحالة انتزاع قرار من مجلس الامن اليس البديل الوحيد الفعلي المتوفر هو في دعم الموقف الحازم برفض أي تفاوض مباشر او غير مباشر في ظل استمرار الاستيطان وغياب المرجعية، والاعلان الفوري عن الدولة الفلسطينية وحدودها على جميع الأراضي المحتلة بما فيها عاصمتها القدس ومطالبة الجميع بالاعتراف بها، واتخاذ اجراءات فعلية لفرض الامر الواقع على الأرض في مواجهة السياسة الاسرائيلية.
وقد سبقت البرازيل والأرجنتين مشكورة الجميع، باعترافها بالدولة وحدودها حتى قبل ان تعلن منظمة التحرير الفلسطينية ذلك، ونأمل ان تحذو الدول العربية حذو البرازيل وتسارع باتخاذ هذه الخطوة.
في المعادلة القائمة حالياً ليس هناك ما يزعج اسرائيل، بل هي في قمة الارتياح. فالامريكيون ينتظرون اسرائيل، والفلسطينيون ينتظرون الادارة الامريكية والعرب ينتظرون الفلسطينيين واوروبا والعالم ينتظر العرب والفلسطينيين، والكل مشغول بالحديث عن بناء مؤسسات الدولة والكل يعرف ان اسرائيل تحشرها في المجال الامني سياسيا، وتحشرها في مناطق أ ، ب جغرافيا لتكون الخلاصة ما يسميه نتنياهو سلاماً اقتصادياً وبنياناً في ما لا يزيد عن 30-40% من الضفة الغربية بدون القدس ، وبدون الاغوار، وبدون قطاع غزة، بدون سيادة، وبدون مصادر المياه، وبدون الاجواء والحدود والمجال الكهرومغناطيسي (بدعة نتنياهو الجديدة!!)
ان العملية الوحيدة الجارية حقاً على الارض هي تصفية عناصر القضية الفلسطينية وتصفية مفهوم الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، واستبدالها بحكم ذاتي محدود في بانتوستان وفي اطار تكريس نظام التمييز العنصري الاسرائيلي (الابارتهايد).
وبكلمات أخرى ما يجري بناءه، او ما تسمح اسرائيل ببنائه هو ما اصطلح على تسميته "بالدولة ذات الحدود المؤقتة" وهو اسم مضلل لأن المقصود جعل ذلك الحل دائماً وليس مؤقتاً.
لم تشهد قضية الشعب الفلسطيني في تاريخها ابداً هذا القدر من التآمر ولا هذا القدر من التواطؤ.
كما لم تشهد الساحة الفلسطينية من قبل، وذلك من مسببات الحالة التي نعيشها، هذا القدر من التفتت. وكل محاولة لرأب صدع الانقسام الفلسطيني تجابه بضغوط خارجية لا أول لها ولا آخر. وبلاءات وفيتوات، لا غرابة فيها، لأن أصحابها هم نفس أصحاب المشروع المذكور اعلاه، والذي أهم مقومات نجاحه ابقاء الفلسطينيين منقسمين، ضعفاء، مشغولين بهموم لقمة العيش عن التفكير بمصيرهم الوطني ومستقبل ابناءهم وبناتهم، ومعرضين لعملية كي وعي غير مسبوقة لاشعارهم باليأس والاحباط.
وهذا ليس نمطاً جديداً. رأيناه في اواسط الثمانينات، ورأيناه اواسط التسعينات، قبل ان يبلغ السيل الزبى.
لكن هذا كله ليس سوى جزء من الصورة. ولربما كان في اغلبيته من مكونات الصورة الرسمية بمختلف هياكلها وعناصرها.
ومقابلها هناك صورة أخرى، شعبية، لشعب متمرس لم تعد تنطلي عليه الاحابيل وان بدا صامتاً عنها.
صورة لعناصر توحد غير مسبوقة بين الفلسطينيين اينما كانوا، داخل اراضي 1948، او في الضفة والقدس وغزة او في الشتات والمهجر. وحدتهم نفس القوة التي عملت على تقسيمهم باخضاعهم جميعاً لنظام التمييز العنصري – الابارتهايد – تحت شعار يهودية الدولـة.
صورة لنهوض رائع لشباب وشابات فلسطين في مختلف انحاء العالم، بعد ان اجتازوا معاناة وتشرد وفقر اهلهم، وتعلموا ونضجوا واعادوا اعتناق قضيتهم الوطنية. وصورة لحركة عالمية ناهضة متضامنة مع فلسطين وقضيتها العادلة ومؤمنة بما قاله نيلسون مانديلا "ان قضية فلسطين هي قضية العدالة الانسانية الأولى في العالم". حركة بدأ تأثيرها يمتد من الشعوب الى الحكومات كما رأينا في موقف البرازيل والارجنتين والاوروغواي.
صورة لحركة تنهض من القاعدة من بين الشعوب لتجعل معظم جنرالات اسرائيل وقادتها، يخافون السفر الى بلد كبريطانيا، ويخشون محاكم جرائم الحرب التي ستلاحقهم في كل مكان.
صورة لحركة جعلت متطوعين شعبيين يحققوا ما عجزت عنه الحكومات والدول بكسر الحصار على غزة.
انها نفس الصورة، لنفس النضال الذي حرر جنوب افريقيا من نظام الابارتهايد، وحرر الهند من الاستعمار وحرر الامريكيين الافارقة من التمييز العنصري.
إسمها إرادة الشعوب، وهي ما سماها غرامشي "تفاؤل الارادة في مواجهة تشاؤم العقل".
المتشائمون هم الذين راهنوا فقط على ما يسمى بالمفاوضات ، فلا شيء فيها يبعث على التفاؤل. والمتفائلون هم الذين يراهنوا على ارادة الشعوب وتراث شعب لم يكسره قرن من القمع والتآمر وعمليات الاحتيال، والذين يملكون مشروعاً بديلاً عماده المقاومة الشعبية والوحدة الوطنية واستنهاض حملة لفرض العقوبات على اسرائيل.